معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الهجوم الأميركي المضاد: أقل من حرب وأكثر من "رد"
05/02/2024

الهجوم الأميركي المضاد: أقل من حرب وأكثر من "رد"

علي عبادي
فتحت الإدارة الاميركية رسمياً جبهة جديدة في العراق وسوريا، تضاف الى الجبهة المفتوحة في البحر الأحمر. من غير الواضح إذا ما كانت الإدارة قد درست جيداً عواقب الهجوم الواسع على مواقع للقوات العراقية والسورية على جانبي الحدود، لكنها تُؤذن عملياً بموجة جديدة من الهجمات والهجمات المضادة بتوقيت يحتمل أقل من حرب شاملة وأكثر من مجرد رد موضعي على الهجوم الذي استهدف قاعدة عسكرية أميركية على الحدود الأردنية ــ السورية. 

قبل كل شيء، ينبغي قراءة ما حدث ليل الجمعة- السبت من غارات جوية في سياق التطورات الآتية:

أولاً: التوتر الأميركي الداخلي والإنتخابات

هذا العام هو عام الإنتخابات الرئاسية الأميركية، والرئيس الحالي بايدن يدخل الإنتخابات للفوز بولاية ثانية وهو يسجل مستوى تأييد متدنٍ، وفقاً لاستطلاعات رأي نُشرت في الصحافة الاميركية مؤخراً. وبالتالي، يعمل بايدن على إعادة تزخيم حملته الإنتخابية إنطلاقاً من الشرق الأوسط، تماماً كما فعل سلفه دونالد ترامب عندما إفتتح موسم الإنتخابات الرئاسية لولاية ثانية عام 2020 باغتيال قائد قوة القدس الشهيد قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي الشهيد أبي مهدي المهندس. ويحاول بايدن التعويض عن تراجعه أمام هجمات إعلامية وسياسية يشنها الجمهوريون، وآخرها ما جرى من ضرب لهيبة السلطة الفيدرالية التي يمثلها في قضية الهجرة غير القانونية عبر حدود ولاية تكساس، وهي قضية تعكس شراسة الجمهوريين واستعدادهم للإنتخابات المقبلة، مما لا قِبل للرئيس الحالي على مواجهته ــ وفق التصور الأميركي التقليدي ــ إلا بإظهار حزم وصلابة استثنائيَيْن .. في الخارج. ومن هنا يخطط بايدن لتحقيق إنجازات في الشهور القليلة المقبلة ترتبط جميعها بساحات رئيسية في الشرق الأوسط، وتحديداً في فلسطين والعراق والبحر الأحمر قبالة اليمن وعلى مسار التطبيع السعودي ــ الإسرائيلي، على ما سيأتي. لكن الحكومة الأميركية تجنّبت توجيه تحدٍ مباشر الى إيران بالرغم من تسريبات صحفية تحدثت عن دراسة ضرب أهداف داخل الجمهورية الإسلامية، وذلك تحسباً لارتداد هكذا ضربة على القوات الأميركية في المنطقة وارتفاع أسعار النفط وانعكاسها على المستهلك الأميركي مباشرة وتشكيل أزمة جديدة في مضيق هرمز والطرق البحرية المجاورة للخليج، في وقت تحاول واشنطن من دون جدوى استعادة السيطرة على مضيق باب المندب في البحر الأحمر.   

ثانياً: مجابهة تغيّرات البيئة الإقليمية

يمكن الحديث هنا عن تغيرات في الإقليم ناتجة عن بداية أفول النفوذ الأميركي الأحادي في المنطقة، في ضوء إعادة برمجة الأولويات الأميركية في العالم وصعود قوى إقليمية ودولية جديدة. في هذا الإطار:
 
1ــ تخطّط الإدارة الأميركية لإستعادة المبادرة بعد سلسلة من العمليات التي استهدفت قواتها في شرقي سوريا وفي غربي العراق وشماله، وهي عمليات تندرج في إطار ما تراه المقاومة حقاً مشروعاً لإخراج قوات الإحتلال من سوريا والعراق. وجاء توقيت الإعتراف بمقتل ثلاثة جنود أميركيين على الحدود الأردنية ــ السورية ليشكل نقطة انطلاق للقيام بهجوم أميركي مضاد، أملاً في إطالة أمد هذا الإحتلال ودفع المقاومة للإستكانة. وثمة سؤال يُطرح عما إذا كان الإعتراف بسقوط قتلى عقب فترة تكتم طويلة، واختيار نقطة تمركز أميركية غير معروفة سابقاً في الأردن، يهدفان خصيصاً لتبرير انطلاق الهجوم المضاد، على اعتبار أن الضربة لو وقعت في مناطق سورية محتلة مثل دير الزور أو الحسكة لم تكن لتحصل على الزخم المطلوب من الناحيتين الإعلامية والسياسية، لأنها ستسلط الضوء على تورط أميركي غير مشروع في هذا البلد. ولذلك، إختار المسؤولون الأميركيون نقطة لا تمثل إشكالية في الواقع السياسي الراهن في المنطقة، علماً ان حكومة الأردن نفت وقوع الهجوم على أراضيها.
         
2ــ من المنطقي التفكير بأن لحظة اختيار الهجوم ترتبط بسعي حكومة العراق لإنهاء الوجود العسكري الإحتلالي لما يسمى "التحالف الدولي" على أراضيها، وهو تحالف تذرَّع بانتشار "داعش" في العام 2014، ولا يزال يتذرَع بإمكان عودته بالرغم من إعلان الإدارة الأميركية السابقة "الإنتصار" على التنظيم. ويلاحَظ هنا أن الهجوم الأميركي المضاد جاء بعد أيام قليلة على إعلان بغداد عن إتفاق على تشكيل لجنة عسكرية مشتركة مع الجانب الأميركي لتحقيق هدف إنهاء الوجود العسكري الأميركي وتقرير شكل العلاقة الأمنية بين الجانبين مستقبلاً. ويبدو أن واشنطن تسعى لترتيب طاولة المفاوضات من موقع قوة لفرض إرادتها على الجانب العراقي، ويضاف إلى ذلك تسلّحها بورقة تهديد دائمة تتعلق بالتحكم بحُرية وصول العراق الى عائداته النفطية وسيولة الدولار إلى أسواق العراق والتلويح بفرض عقوبات على مصارف عراقية، كما حصل مراراً، ما يهدد الإستقرار المالي لهذا البلد الذي يحاول التعافي من الصدمات المتتالية.  

3ــ هناك ارتباطٌ ما بين الهجوم الأميركي المضاد ومجريات الحرب العدوانية على قطاع غزة. مما لا شك فيه أن الإدارة الأميركية تحاول شلّ أذرع محور المقاومة التي تحركت لنصرة غزة ووقف الحرب عليها، بما يتيح لهذه الإدارة وحدها رسم معالم نهاية هذه الحرب بالتعاون والتنسيق مع حليفها الصهيوني ومع أنظمة التطبيع العربي. وفي ضوء تعثّر الحراك الدبلوماسي الأميركي وبطء وتيرته لضبط إيقاع هذه الجبهات المشتعلة، قد تجد واشنطن أن من مصلحتها إظهار قوتها العسكرية على غير ساحة في الإقليم من أجل تسريع "الحل" الذي تنشده للحرب على غزة. ويلاحَظ هنا أن الجانب الأميركي يتحدث عن "حملة" وليس عن ردّ محدود، بما يعني أن أجَل العمل العسكري سيكون مفتوحاً لمواكبة حركتها السياسية.

4ــ بالتزامن، يسجَّل تحرك عسكري أميركي موازٍ في البحر الأحمر، ظاهره توفير حماية الملاحة البحرية، وباطنه درء الخطر عن إسرائيل لكي تستطيع مواصلة حربها في غزة وتحقيق شيء من أهدافها المعلنة قبل وضع خاتمة للحرب.
 
5ــ قد يكون من أهم أهداف الهجوم العسكري الأميركي المضاد الجاري حالياً تمهيد الأرضية لمشروع التطبيع بين السعودية والكيان الصهيوني. من المعروف أن هذا المشروع قد تجمَّد بعد بدء حرب غزة، وثمة شكوك من السعودية في قدرة إدارة بايدن على الوفاء بوعودها للسعودية في ما تبقى لها من شهور قبل الانتخابات الرئاسية، وربما تطمح الحكومة السعودية لتأجيل البتّ بهذه الورقة الى العهد الاميركي المقبل الذي قد يقوده ترامب من جديد، وهو صاحب علاقات وثيقة مع ولي العهد السعودي عبر صهره جاريد كوشنير الناشط باستمرار على خط واشنطن ــ الرياض. كما توجد لدى حلفاء خليجيين آخرين حالة من الإستياء بسبب ضعف الدور الاميركي في المنطقة، وهو ضعف تجلى بالإنقياد الكامل لأهداف اسرائيل العدوانية في حرب غزة، وفي تخلي واشنطن عن مواجهة صعود إيران وأطراف محور المقاومة عسكرياً، ثم في اتّباعها أولويات أخرى في مواجهة الصين وروسيا.

بناءً على ما سبق، تسعى الإدارة الأميركية الحالية بما تبقّى لها من شهور قليلة في السلطة، الى تحقيق مجموعة أهداف بحجر واحد عن طريق استخدام القوة العسكرية المحدودة (الغارات الجوية من دون التورط بإنزال قوات برية مرة أخرى): إنهاء الحرب في غزة لصالح اسرائيل، وإيجاد صيغة لـ "دولة فلسطينية" (غير مسلحة) بما يعيد لبايدن قاعدة انتخابية أميركية ترفض التصويت له بسبب دعمه للعدوان على القطاع (يحاول بايدن هنا أيضاً استخدام آلية التخويف من ترامب باعتبار أنه يخطط لطرد المهاجرين والعرب والمسلمين الذين "يكرهون" إسرائيل)، وتشريع وجود عسكري وأمني أميركي دائم في العراق بأشكال ومسمَّيات جديدة، واستعادة ولاء بعض الدول العربية الحليفة التي بدأت في السنوات القليلة الماضية تنويع علاقاتها مع معسكرات دولية أخرى، وتحقيق إختراق أساسي في مسار التطبيع العربي مع "إسرائيل" عن طريق دفع السعودية إليه ومن خلفها دول إسلامية كبيرة مثل باكستان وأندونيسيا وماليزيا.
 
تدل التجارب الماضية على أن الأهداف الكبرى الأميركية تمر في بعض المراحل بمسار صعودي، قبل أن تتعثّر وتتّجه نزولاً، وتمثل "إسرائيل" نقطة الضعف الأساسية للمشروع الاميركي لعدم قدرته على الإنفكاك عنها، وهي التي تمضي بيديها في تخريب إمكانات الإندماج في المنطقة عن طريق خطوات الإستيطان والتهويد والإحتلال الدائم وصولاً الى الإبادة الجماعية، مما يستعصي على الإصلاح والتجميل والترقيع.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات