آراء وتحليلات
المقاومة تصنع التاريخ
محمد أ. الحسيني
يعيش بنيامين نتنياهو وأركان حكومة حربه داخل فقاعة كبيرة مغلقة بمعزل عن العالم الواقعي، فيصرّحون في العلن بخلاف ما يمرّرونه من تحت الطاولة وخلف الستار، فهم يطلقون تهديداتهم بشنّ حرب على لبنان على وقع انسحاب تدريجي لمعظم قوات الاحتلال من أنحاء متفرقة في قطاع غزة، بذريعة الانتقال إلى المرحلة الثالثة من العدوان، بما يوحي وكأن "إسرائيل" أنجزت المهمة في الجنوب وتنتقل إلى إنجاز آخر في الشمال، ولكنهم في المقلب الآخر يضغطون باتجاه إتمام صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية، ويستجدون عن طريق واشنطن لوقف الحرب، أو بالحد الأدنى التوصّل إلى تعهدات أكيدة بعدم تدخّل حزب الله لضمان عودة المستوطنين إلى الشمال، ولكن بشرط ألا تظهر "إسرائيل" وكأنها انهزمت في المعركة.
مبادرات أمريكية بشروط إسرائيلية
إن المتابع للمجريات الراهنة في دائرة التحرّكات الدبلوماسية يستطيع أن يرصد مجموعة من المعطيات التي تستخدمها الإدارة الأمريكية خلال سعيها لترتيب تسوية ما تحقق فيها أكبر قدر من المكاسب السياسية، وتعتمد في ذلك أساليب مستهلكة ذي وجهين، وتوزّع الأدوار على المكلّفين بما يتناسب مع حدود صلاحية وتمثيل كل طرف، وتبعث بالرسائل العلنية والخفيّة، وترسل الوسطاء (الأوروبيين) والمبعوثين (آموس هوكشتاين) إلى لبنان فيما يجول وزير خارجيتها انتوني بلينكن على الأطراف العربية، وهي بذلك تلعب دور الرجل الصالح الحريص على الاستقرار، وفق تقنية الترغيب والترهيب، وتسدي النصيحة بتقديم أكثر ما أمكن من التنازلات للخروج بأقل ما أمكن من الخسائر، خشية من انتقام الصبي الشرير (إسرائيل).
وبناء على ذلك يمكن تفسير ازدحام المبادرات والإغراق المقصود بالتحركات والزيارات من أكثر من طرف، مع الإبقاء على إيقاع الضبط الأمريكي الذي يشخّص لكل زائر أو مبادرة هدفها الخاص الذي يصب بالنتيجة في خانة تحقيق الهدف الرئيسي بإراحة إسرائيل وفرض شروطها على سائر الأطراف، وهذه الآلية تتّبعها واشنطن في كل مرّة تستشعر بوجود الخطر على الكيان المؤقت، ولمعرفتها بأن العنصر الإسرائيلي لا يمكن أن يكون مقبولاً في أي تسوية مباشرة، فهو الخصم الدائم الذي لا يتقبّل وجود أي ندّ مقابله، ولذلك تمضي الإدارة الأمريكية في سياستها التي اعتادت اعتمادها حيال قضايا المنطقة وبلدانها وشعوبها، ليس من منطلق التشاور أو التناصح بل من منطلق فرض القرار، فهذه البلدان بشعوبها وفق التصنيف الأمريكي والغربي لا قرار لها ولا مصلحة أو تصرّف، إلا بما تسمح به واشنطن وبما يحفظ لها مصالحها في المنطقة.
يد المقاومة هي العليا
وبالنظر إلى الحساسية الميدانية التي تشهدها المنطقة من بوابة قطاع غزة، يبدي متابعون استغرابهم من الأداء الدبلوماسي الأمريكي الذي لم يتغيّر على مدى الحكومات المتعاقبة في البيت الأبيض، وخصوصاً لجهة اعتماد أسلوب الإخراج الهوليوودي والتلفيق الإعلامي، من خلال الترويج لسيناريوهات "رعب" ونشر أخبار وتسريب معلومات بطرق مختلفة، بهدف تشتيت القرار السياسي (ونتحدث هنا عن القرار اللبناني والفلسطيني) ووضعه تحت ضغط نفسي مرتبط بمهلة محدّدة للرد والتصرّف، فيضع المسؤولين تحت مقصلة الضغط الزمني الذي لا يحتمل الانتظار، وأن لا حل إلا بتبنّي المبادرة التي يسوّق لها خدمةً للجميع، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور؛ ويلفت المتابعون إلى أن هذا الأداء لم يعد مجدياً، وسبق أن فشلت واشنطن في هذا المسعى مراراً وتكراراً، وآخرها كان خلال وبعد عدوان تموز 2006، فلماذا الإصرار؟! بموازاة ذلك، لا تجد قيادة المقاومة في لبنان وفلسطين، وكذلك قيادات محور المقاومة، أنّها على عجلة من أمرها، بل تتعاطى مع الطروحات والمبادرات بهدوء ونفس طويل وكأن المعركة بدأت للتوّ، فلماذا تُمنح واشنطن و"تل أبيب" إنجازاً سياسياً في الوقت الذي تملك المقاومة زمام المبادرة ولديها اليد العليا في موازين المواجهة؟!
بشارة بدأت بالتحقق
صحيح أن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة يدفع فاتورة القتل الهمجي الإسرائيلي الذي أودى بعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى وتدمير مقوّمات العيش، إلا أن مقاومة حركة حماس وباقي فصائل المقاومة تمعن يومياً في إنهاك جيش الاحتلال بشكل غير مسبوق في تاريخ الصراع مع الصهاينة، وصحيح أن المواطنين اللبنانيين في قرى المواجهة يكابدون خطر الاعتداء اليومي على منازلهم وأرزاقهم، وأن المقاومة الإسلامية قدّمت وتقدّم يومياً الشهداء قادةً ومجاهدين على طريق القدس، وهو الثمن الطبيعي للحرب، إلا أنها تكبّد العدو خسائر بشرية وعسكرية وتقنية لم يشهدها من قبل، باعتراف مصادر العدو، فضلاً عن تحويل غالبية مستوطنات الشمال إلى مدن أشباح مدّمرة وغير قابلة للحياة؛ مع ما يستتبع ذلك من أزمة عميقة مباشرة وغير مباشرة على الإقتصاد الصهيوني وكذلك على تشتّت النسيج الإجتماعي، ولذلك لم تقتصر "هجرة" الصهاينة من الشمال إلى مستوطنات الداخل، بل بدأت بشارة الأمين العام لحزب الله تتحقّق شيئاً فشيئاً حيث يحزم مئات الآلاف من المستوطنين حقائبهم ويعودون إلى البلدان التي استُقدموا منها.
واشنطن تعيد الحسابات
على خط موازّ، أصبح أمن المستوطنات الشمالية، واضطراداً أمن "إسرائيل" برمتها، المحور الأساسي الذي تبني عليه واشنطن أساس تحرّكها المستأنف في المنطقة، وهذا يدلّ على عمق الأثر الذي أحدثته العمليات المتدحرجة التي نفذتها المقاومة الإسلامية؛ وبقدر ما يعدّ هذا الأثر عنصر قوة للبنان بقدر ما يعدّ مكمن تهديد وجودي لدى الكيان المؤقت. وهذا يدفعنا إلى الإعتقاد بأن المسألة لا تتعلّق بحدود غزة والضفة وفلسطين، ولا بجنوب لبنان أو بيروت، فإن وجود "إسرائيل" برمتّه بات على المحك، ومعه كل أحلام وأطماع قوى التوسع والهيمنة الغربية الأوروبية والأمريكية، ومعركة غزة لن تترك بنتائجها آثارها العميقة على مستقبل الوضع في فلسطين ولبنان فحسب، بل ستدفع واشنطن إلى إعادة حساباتها في المنطقة وفي خارطة المصالح والتوازن الاستراتيجي بين القوى الكبرى في العالم، بدءاً من السواحل الشرقية للولايات المتحدة مروراً بأوروبا وخزّانات الدول في منطقة الخليج وصولاً إلى أقصى الشرق حتى حدود تايوان.
التاريخ الجديد
إنه التاريخ الذي تصنعه المقاومة اليوم في لبنان وفلسطين وجبهة دول المحور، حيث إن الولايات المتحدة والغرب والمشروع التوسّعي الكبير الذي تمثّله "إسرائيل"، لم تعد في الموقع الذي يخوّلها رسم الخرائط الجديدة وتقسيم الدول وتقرير مصائر الشعوب والأنظمة، بل أصبحت في موقع المستجدي لهدنة يتبعها تسوية، تأمل أن تكون شاملة بما يضمن مصالجها الاستراتيجية، فيما العواصف العسكرية والسياسية تزعزع أركان الكيان المؤقت، مع ازدياد الخشية من امتداد هذه العواصف لتقتلع جهود عشرات السنين، التي عملت خلالها واشنطن لتطويع الدول والأنظمة العربية وضمّها إلى حظيرة التطبيع.. إنه تاريخ جديد يتشكّل في ظل عاملين أساسيين، أولهما: انهزام الشعور بالخوف والضعف، وثانيهما الإيمان بالقدرة على الانتصار، وهذا ما تجسّده تضحيات شعوب دول المحور وضمودهم، وبطولات المقاومين وانتصاراتهم في محاور القتال.. وبقاء اليد على الزناد.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024