آراء وتحليلات
واشنطن بين توسيع الصراع والتفجير المتنقّل
حيّان نيّوف
لجأت واشنطن مؤخرًا للتصعيد المتنقّل، سواء بشكل مباشر أم عبر وكيلتها "إسرائيل"، حيث اُستهدفت مقرات الحشد الشعبي والمقاومة في العراق وسورية، ثم البحرية اليمنية، وعبر وكيلتها "إسرائيل" نفذت جريمتي اغتيال القائدين رضي الموسوي وصالح العاروري في دمشق وبيروت، قبل أن نشهد هجومًا إرهابيًا مزدوجًا راح ضحيته عشرات الشهداء في ايران، ثم عادت واشنطن واستهدفت بنفسها أحد قادة الحشد الشعبي في العاصمة العراقية بغداد.
جرى كلّ ذلك في الأسبوعين الأخيرين، وهو يعكس نهجًا أميركيًا منسقًا ومتعمّدًا له مسبباته وغاياته في سياق المعركة الحالية وموقعها من الصراع ككل.
ترافق ذلك مع القرار الأميركي بسحب حاملة الطائرات "جيرالد فورد" مع القطع البحرية المرافقة لها من المنطقة، وهو على عكس ما أشيع لا يمكن عدّه مؤشرًا للتهدئة مطلقًا، بل ربما عكس تحوطًا أمريكيًا من استهداف تلك الحاملة في ظل ارتفاع منسوب التصعيد وارتكاب الولايات المتحدة لحماقات عديدة. وعلى صعيد التنافس والصراع العالمي فإنّ واشنطن لا تستطيع التضحية بأية حاملة طائرات لديها في ظل التنافس مع الصين وروسيا والتراجع الأمريكي في مجال عدد القطع البحرية العسكرية وحاجة الكثير منها للصيانة والتحديث في مقابل تطوير الصين وروسيا لقطعها البحرية كمًا ونوعًا. لذلك؛ فإنّ الإجراء الأميركي أمكن عدّه استباقًا لتصعيد وشيك مع العلم بأن القواعد الثابتة للولايات المتحدة في الإقليم كثيرة جدًا.
ولا يمكن أن نتجاهل أيضًا بأنّ هذا التصعيد ترافق مع تصعيد أميركي على الجبهة الأوكرانية، حيث جرى استهداف إحدى السفن الروسية في القرم ولاحقًا جرى استهداف مقاطعة بيلوغراد في غرب روسيا أكثر من مرة ونتج عن ذلك خسائر بشرية ومادية.
ولا بد لنا عند النظر إلى المشهد الإقليمي من توسيع دائرة الرؤية للوصول إلى قراءة أكثر دقة للصراع وتشابكاته، فلطالما كانت منطقة الشرق الأوسط وقضاياها والصراع فيها يمثل مؤشرًا للصراع العالمي والعكس صحيح.
عند الوقوف على الأسباب التي دفعت بواشنطن للجوء إلى هذا النهج التصعيدي الجديد أو بالأحرى التكتيك الجديد المتبع في التصعيد، فإنّه يمكن اختصار تلك الأسباب من وجهة النظر الأميركية بالآتي:
• فشلت واشنطن التي تصدّت لمهمة إدارة الحرب على غزة في تحقيق انتصار واضح بعد ما يقارب ثلاثة أشهر من المعركة، ولم تستطع مع "إسرائيل" تحقيق أهداف العدوان التي أعلنتها وعلى الأخص تصفية المقاومة وتحرير الأسرى.
• فشلت واشنطن في تسويق أي من الطروحات والمخططات السياسية التي سعت إليها (حلّ الدولتين، حكم غزة ما بعد الحرب، التهجير القسري والهجرة الطوعية).
• فشلت واشنطن في تقييد حدود المعركة داخل غزة ومنع توسعها، وبدلًا من ذلك تلقت مع "إسرائيل" الضربات من الجبهات اليمنية واللبنانية والسورية والعراقية.
• أضيف إلى الفشل الأميركي خسارتها للبحر الأحمر ممرًا مائيًا لطالما حرصت على تأمينه ممرًا يخضع لسيطرتها بشكل مباشر أو غير مباشر، ولم تنجح في تشكيل التحالف البحري الذي دعت إليه من أجل مواجهة اليمن.
• فشلت واشنطن في تجنيب قواعدها وتواجدها غير الشرعي في العراق وسورية لانعكاسات طوفان الأقصى، وبات هذا التواجد مهددًا بفعل عمليات فصائل المقاومة.
• فشلت واشنطن في مخططها لتمرير التطبيع السعودي - الإسرائيلي الذي كان مقررًا بأنّه أحد إنجازات إدارة بايدن قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
• الفشل الأميركي في تسويق مشروع الممر الهندي الشرق أوسطي- الأوروبي بعد تلقيه ضربة قاصمة بفعل طوفان الأقصى.
• الفشل الأمريكي في وقف التراجع على الجبهة الأوكرانية في ظل التقدم الروسي الكاسح ورفع موسكو لسقف شروطها وأهدافها.
في ظل كل تلك الأسباب وجدت واشنطن نفسها مضطرة للتصعيد.
قال سماحة السيّد حسن نصرالله، في خطابه الثلاثاء 2 كانون الثاني 2024، بأنّ الولايات المتحدة هي من تمنع وقف إطلاق النار في غزة، وفي خطابه الأول بعد الطوفان أوضح بأنّ طوفان الأقصى ملف فلسيطيني غير مرتبط بملفات إقليمية او دولية.
الأميركيون تحديدًا فهموا جيدًا ما عناهُ السيّد في الخطابين الأول والأخير منذ طوفان الأقصى.
ففي الخطاب الأول كان مقصد السيّد بأن على الأميركي الفهم بأنه لا مجال لمقايضة ملف غزة بملفات إقليمية أخرى، وتحديدًا ملف التواجد الأمريكي في المنطقة وخاصة في العراق وسورية، ولذلك قال السيّد في خطابه الأخير بأن واشنطن هي من تمنع وقف إطلاق النار في غزة، لأنه يدرك وبالتأكيد لديه من المعلومات ما يكفي بأن واشنطن هي المسؤولة عن استمرار الإجرام الإسرائيلي في غزة طالما أنها لم تحقق هدفها بوجود آمن لقواتها في الإقليم، فما بالكم بعد أن تحولت قواعدها إلى أهداف شبه يومية لعمليات المقاومة؟
واشنطن نعم لا ترغب بتوسيع الصراع بشكل مفتوح وغير مضبوط لإدراكها بأن نتائجه ستكون كارثية عليها وعلى حليفتها "إسرائيل" وعلى عملائها في الإقليم، وبالتأكيد على مكانتها في العالم الجديد المتشكّل، ولكنها أيضًا لا تريد له أن يتوقف إلا وفقًا لشروطها ومصالحها، ولأجل كل الأسباب التي ذكرناها، لجأت إلى عمليات الاغتيال والتفجيرات، فباعتقادها أن ذلك سيحقق لها هدفين على الأقل:
• الأول: بأن هذا التكتيك التصعيدي وعلى عكس الاشتباك الإقليمي المفتوح لن يؤدي لمعركة مفتوحة بحسب قناعتها، ويمكنها التملّص من منسوب تبعاته، سواء عبر الضغط منها أم من حلفائها سياسيًا، أو من خلال التستر على مسؤوليتها عنه عبر إلصاق المسؤولية بتنظيمات إرهابية ترعاها، مثل داعش وغيرها.
• الثاني: إن هذا التكتيك سيدفع بالخصوم إلى القبول بتشميل مصالحها وأهدافها في أي تسوية سياسية بغرض التهدئة، وبمعنى آخر العودة إلى ربط الملفات ومقايضتها.
يمكن تقديم الدليل على أهداف واشنطن من خلال نقطتين مهمتين:
الأولى: هي التصريحات التي صدرت عن واشنطن بعيد عمليات الإجرام التي نفذتها وحليفتها "إسرائيل"، وهذه التصريحات أطلقها البيت الأبيض والخارجية ومكتب الأمن القومي، وتضمنت الحديث عن التهدئة وتلويحًا باستخدام القوة، وأكدت وهو الأهم على الحفاظ على استمرار الوجود العسكري الأمريكي الكبير في الشرق الاوسط، ولعل هذه النقطة بالتحديد هي مغزى كل تلك التصريحات والهدف من وراء التصعيد، وكأن واشنطن تريد القول التهدئة مقابل وجودنا في المنطقة.
الثانية: تتمثل بجولة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في المنطقة بعيد التصعيد، والتي ستشمل تسع محطات محسوبة على واشنطن. بلينكن جاء ليعيد اجترار الحديث عن التهدئة والأسرى، ولكنه أضاف إلى مهمته قضية أمن البحر الأحمر، ويعتقد في نفسه أنه جاء متسلحًا بنتائج عمليات الغدر والاغتيال والتفجير التي مارستها بلاده، وبالمحصلة هو جاء ليطرح المقايضة تحديدًا عبر وكلاء واشنطن الإقليميين.
نتائج المعركة الحالية ونتائج الصراع العالمي، لا تتناسب مع مخططات وأهداف الولايات المتحدة، لذلك فإنّ واشنطن ماضية في التفجير إلى أن تتمكّن من إنضاج الظروف التي تتوافق مع أهدافها من التهدئة. نجاح واشنطن أو فشلها بذلك هو شيء آخر، ومن المستبعد بل من المؤكد بأنه لن يسمح لها بتحقيق أهدافها، لذلك فإنّ التفجير والاشتباك سيستمر، لكنه سيبقى من دون الحد الذي يسمح بصدام القوى الكبرى بشكل مباشر.. الاشتباك المتنقّل سيكون عنوان المرحلة المقبلة، لكن على واشنطن أن تتذكر ما ختم به سماحة السيد حسن نصرالله خطابه الأخير بقوله :"بيننا وبينكم الميدان والأيام والليالي"..
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024