آراء وتحليلات
الاحتلال الأميركي في العراق.. الملف المطلوب إغلاقه!
بغداد: عادل الجبوري
في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قصفت طائرات عسكرية أميركية مقرًا لقوات الحشد الشعبي في ناحية جرف النصر، جنوب العاصمة بغداد وشمال محافظة بابل. وأسفر ذلك القصف عن استشهاد ثمانية من منتسبي الحشد وإصابة عدد آخر. ووصف الأميركيون تلك العملية بأنها ردّ على قيام فصائل مسلحة باستهداف الاحتلال الأميركي ببعض القواعد العسكرية، مثل قاعدة عين الأسد في الأنبار، وقاعدة حرير في أربيل.
وفي الثالث من شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري، أسفر قصف جوي أميركي لموقع تابع لحركة النجباء في محافظة كركوك عن استشهاد خمسة من عناصر الحركة، وقد بررت الولايات المتحدة هذا القصف بأنه ردّ على هجمات استهدفت قواتها في العراق، كانت قد انطلقت من الموقع الذي استهدفته.
لقد قوبل العدوان الأميركي، في جرف النصر وكركوك، بردود أفعال غاضبة ومستهجنة من مختلف القوى والشخصيات والفاعليات والنخب السياسية والدينية والمجتمعية. وأعاد تصعيد موجة المطالبات بإنهاء الوجود الأميركي، بكل أشكاله وصوره من البلاد، لما سبّبه ويسبّبه من مشكلات وأزمات وكوارث ومآسٍ لأبناء الشعب العراقي.
وبالرغم من أن الدعوات لإخراج الأميركيين من البلاد تعود إلى بضعة أعوام، وتحديدًا إلى الأعوام الأولى التي أعقبت الإطاحة بنظام صدام حسين، في ربيع العام 2003 وحصول الغزو والاحتلال، إلا أن جريمة اغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الشهيد أبو مهدي المهندس وقائد فيلق القدس الإيراني الشهيد قاسم سليماني في الثالث من شهر كانون الثاني-يناير من العام 2020، مثّل نقطة تحوّل كبيرة، وانعطافة مهمة، أفضت إلى رفع وتيرة العمل السياسي والميداني الساعي لطرد القوات الأميركية. وهو ما دفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الإعلان، في السادس والعشرين من شهر تموز/يوليو من العام 2021 بأن: "الولايات المتحدة ستنهي بحلول نهاية العام- أي العام 2021- مهمّتها القتالية في العراق، لتباشر مرحلة جديدة من التعاون العسكري مع هذا البلد، ولن نكون مع نهاية العام في مهمة قتاليّة، لكن تعاوننا ضد الإرهاب سيتواصل حتى في هذه المرحلة الجديدة التي نبحثها، وأنَّ الدور الأميركي في العراق سيتحوَّل إلى تقديم المشورة والتدريب".
ممّا لا شكّ فيه أنَّ هناك فرقًا كبيرًا جدًا بين الانسحاب والجلاء الكامل وتغيير المهام، وهذه هي النقطة الجوهرية الحساسة التي شغلت حيزًا كبيرًا من الجدل والسّجال لوقت طويل. ويبدو أنَّها سوف تشغل حيزًا أكبر في المرحلة المقبلة ارتباطًا بإيقاع تطورات الوقائع والأحداث ومستجداتها في العراق وعموم المنطقة.
والواضح إلى حد كبير هو أن هناك رأيًا عامًا مدعومًا ومعزّزًا بمواقف ورؤى طيف سياسي واسع، من مختلف المكونات السياسية والمجتمعية والثقافية العراقية، بأنّ كمًّا هائلًا من المشكلات والأزمات والمآسي والويلات التي حلَّت بالعراق تقف الولايات المتحدة الأميركية وراءه وتتحمّل مسؤوليّته، سواء عن قصد أو من دون قصد. هذا الرأي العام المعزّز بالمواقف والرؤى السياسيّة يقول إنَّ الأمور بعد مغادرة الأميركيين لن تكون أسوأ ممّا كانت عليه في ظلِّ وجودها.
في الوقت ذاته، فإنّ ثمة أوساطًا سياسيّة ووسائل إعلام ومنظمات حقوق غربية، وأميركية على وجه الخصوص، تحدَّثت في مناسبات مختلفة عن أخطاء وجرائم وتجاوزات وانتهاكات ارتكبتها القوات الأميركية في العراق ودول أخرى، مثل أفغانستان وسوريا وغيرهما. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، في أحد أعدادها الصيف الماضي، وثائق لوزارة الحرب (البنتاغون)، تكشف عن نزر يسير ممّا قامت به الولايات المتحدة الأميركية واقترفته في العراق. ومن بين ما ذكرته الصَّحيفة، أنَّ وثائق البنتاغون الجديدة كشفت "أنّ ضربات القوات الأميركية أوقعت آلاف القتلى المدنيين، بينهم أطفال كثر، وأنّ التعهّدات بالشفافية والمساءلة بقيت غالبًا من دون تنفيذ، ولم يخلص، ولو سجلّ واحد، إلى خطأ ارتُكب أو إلى إجراء تأديبي".
وبالرغم من الاعترافات الرسمية الأميركية بتسبّب العمليات العسكرية بمقتل مدنيين في العراق وسوريا وأفغانستان وإلحاق أضرار بالبنى والمنشآت المدنية الخدميّة، فإنّ الأرقام المعلنة أقل بكثير من الأرقام الحقيقية، كما تؤكد الكثير من التقارير. هذا؛ ولم تفِ واشنطن بتعهداتها والتزاماتها وما أبرمته من اتفاقيات مع بغداد بشأن انسحابها بالكامل نهاية العام 2021، وبدلًا من ذلك راحت تتحدث عن تغيير مهام قواتها وإعادة انتشارها في العراق.
ومن بين ما قيل في ذلك الوقت، ورد على لسان المتحدث باسم وزارة الحرب الأميركية جون كيربي، إذ صرّح قائلا: "إنّ الأوامر التي وردت تتمثّل بتغيير المهمّة القتالية للقوات الأميركية إلى مهمة دعم وإسناد فقط. هذا يعني أنَّ التّغيير يشمل طبيعة المهمّة، وليس طبيعة حجمها أو عدد القوات المطلوبة لها حتى الآن، والأمور لا تسير بطريقة كسر نمط عمل القوات الأميركية في العراق وسحبها كليًا فجأة، ومن دون سابق إنذار".
وهناك الكثير من المؤشرات والمصاديق التي تؤكد مراوغة الولايات المتحدة ومماطلتها، من دون تقدير واقعي وعقلاني لما يمكن أن يترتب على ذلك من استحقاقات وخسائر عليها.
وفيما بعد جاءت معركة "طوفان الاقصى"، في فلسطين المحتلة، لتفرض واقعًا جديدًا، وتعزز من حقيقة أو مطلب إنهاء الوجود الأميركي في العراق بأقرب وقت ممكن، ارتباطًا بمواقف واشنطن الداعمة للكيان الصهيوني، ومواقف العراق الداعمة لفلسطين.
وحجم الهجمات التي تعرضت لها القوات الأميركية في العراق، منذ بدء معركة "طوفان الأقصى" قبل حوالي شهرين، والتي اعترفت وأقرت بها واشنطن ذاتها، يؤشر إلى جانب من ذلك الواقع الجديد والاستهداف الأميركي لقوات الحشد وفصائل المقاومة، سواء كان يعّد فعلا أو ردّ فعل، فإنّه هو الآخر يؤشر إلى جانب من ذلك الواقع الجديد. وبقدر ما ينبغي على الحكومة العراقية التعاطي والاهتمام بدرجة أكبر بملف إنهاء الوجود الأجنبي-الأميركي من أرض البلاد، على الإدارة الأميركية أن تتجنب الدخول في مستنقع آخر لا تعرف كيف تخرج منه لاحقًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
12/11/2024
حسابات حقول العدوان وبيادر الميدان
11/11/2024