آراء وتحليلات
تكامل الإجرام الأميركي - الإسرائيلي.. مستشفى الشفاء نموذجًا
شارل أبي نادر
صحيح أن تاريخ الكيان الإسرائيلي مشبع بالجرائم وبالتجاوزات الفاضحة للقوانين الدولية والإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني وشعوب الدول التي اعتدت عليها أو احتلت بعض أراضيها، والعالم أساسًا، لم يكن ينتظر ما تمارسه اليوم من انتهاكات وجرائم ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والأراضي المحتلة كلها، لكي يخلص إلى القول إن هذا الكيان الغاصب هو كيان مجرم وحاقد وظالم، ولكن..
ما حصل مؤخرًا، في عملية احتلال الوحدات العسكرية الإسرائيلية لمجمع الشفاء الطبي في شمال قطاع غزة، وفي كامل مسار الوصول إلى محاصرته واستهدافه والدخول العنيف إلى أجنحته ومبانيه المكتظة بالمصابين والمرضى والأطفال، بعد الادّعاء أن المستشفى المذكور يحضن مركز قيادة وتنسيق وعمليات لحركة "حماس"، يبقى -أي احتلال المجمع- جريمة العصر من دون منازع، والتي لا يمكن أن يكون لـ"اسرائيل" مهما امتلكت من الوقاحة على تجاهل ومخالفة القيود القانونية والدولية والانسانية القدرة على تنفيذها من دون غطاء واسع ومتين من الولايات المتحدة الأمريكية.
فما هي أسباب تغطية واشنطن لهذه الجريمة غير المسبوقة بهذا الأسلوب المكشوف من دون قفازات؟ وأي أهداف استثنائية دفعت بـ"اسرائيل" ومن ورائها واشنطن، لتنفيذها من دون الالتفات إلى الموقف المعارض، ولو ظاهريًا، لذلك من أغلب دول العالم حتى الصديقة منها لأميركا وللكيان الصهيوني؟
بداية، لواشنطن تاريخ حافل بتلفيق الخدع الكاذبة ضد الدول والأطراف لخلق تبريرات تستند عليها لاستهدافها والاعتداء عليها واحتلال أراضيها، ويبقى نموذج اتهام العراق زورًا بامتلاك أسلحة دمار شامل وغزوه، مثالًا صارخًا عبر التاريخ على هذا الكذب والتدجيل الأميركي، الأمر الذي سهّل لواشنطن تغطية "إسرائيل" في هذا الادعاء حول مجمع الشفاء؛ لا بل، لا يمكن أن نستبعد أن يكون الادعاء بأساسه أميركي المصدر وإسرائيلي الإخراج والتنفيذ.
في الواقع، لم يستغرق الوقت أكثر من ثلاث ساعات تقريبًا، حتى انفضحت أكاذيب واشنطن و"إسرائيل"، وليتأكد العالم بأنّ مجمع الشفاء لا يحضن أو يحوي أي وجه من أوجه البنية العسكرية بتاتًا، وخروج وحدات العدو من أجنحته ومن أقسامه الطبية ومن مبانيه التحت أرضية بسرعة، من دون أخذ الوقت المفترض لتنفيذ تفتيش مناسب وكافٍ للتأكد من خلوه من أي وجه عسكري، هو خير دليل على عدم صحة هذا الادعاء الكاذب.
من جهة أخرى، ومن خلال متابعة مسار عملية محاصرة المجمع والدخول اليه، وذلك بعد تسويق الادعاء الكاذب حوله وبعد نشر تهديدات علنية ووقحة من قيادات العدو العسكرية بأنهم سوف يسيطرون على المجمع، بالرغم من أنه يحوي ويحمي آلاف المرضى والمصابين والنازحين والأطفال حديثي الولادة، وأيضًا من خلال متابعة حركة الميدان ومسار الأعمال القتالية خلال كامل وقت الهجوم البري الإسرائيلي على القطاع وتحديدًا على شماله، بين وادي غزة وبين حدوده لناحية شمال بيت حانون وبيت لاهيا، يمكن استنتاج ما يلي:
١- كانت "إسرائيل" ومن خلفها واشنطن، ومن وراء الإعلان الفاضح عن نيتها احتلال مجمع الشفاء، تهدف إلى خلق جو ضاغط على أبناء شمال غزة لترك منازلهم البسيطة ومخابئهم الهزيلة أمام صواريخ العدو الذكية وقنابله الفراغية والارتجاجية، والتوجه إلى جنوب غزة – في مرحلة أولى وإلى خارجها في مرحلة ثانية- وذلك عبر إفهامهم بأنّ المشافي والمراكز الطبية وحتى مراكز الإيواء الإنسانية التي تشرف عليها الأونروا ستكون هدفًا للتدمير، فكيف بمنازلهم التي ستكون طبعًا مستهدفة ومصيرها الدمار. وتكون بذلك "إسرائيل" وبتغطية وبقرار أميركي، حققت الهدف الاستراتيجي من هذه الحرب على غزة، بتهجير أهلها وإنهاء البنية الشعبية والاجتماعية والسياسية للقطاع بشكل كامل، وطبعا، بعد إنهاء البنية العسكرية للمقاومة الفلسطينية في غزة.
٢- على طريق تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي- تهجير غزة وإفراغها من أبنائها- كان على "إسرائيل" تحقيق إنجاز ميداني وعسكري بإكمال السيطرة على القطاع بدءًا من شماله، والتأسيس لإنهاء البنية العسكرية للمقاومة فيه، الأمر الذي كان يحتاج، وبمرحلة أولى وأساسية وإجبارية، إلى تحقيق سيطرة ميدانية على الفاصل السكني الممتد من أول شارع التوام جنوب العطاطرة، مرورًا بشارع النصر ومحيط مجمع الشفاء، وامتدادًا إلى تل الهوى فمنطقة الشيخ عجلين حتى وادي غزة.. وتكون وحدات العدو بهذه السيطرة الميدانية، قد حققت الفصل بين منطقة غرب شمال القطاع ضمنًا مخيم الشاطىء وميناء غزة عن الأحياء والمخيمات الداخلية للمدينة: الصفطاوي والشيخ رضوان وجباليا والشجاعية والزيتون، والتي يبدو أنها ستحاصرها وتضغط عليها لإخلائها عبر تشديد الحصار أكثر، وعبر رفع مستوى القتل والتدمير أكثر من دون المخاطرة باقتحامها.
من هنا، كان هذا السيناريو الخبيث والمتكامل بين واشنطن وبين كيان الاحتلال، وذلك في سبيل تحقيق الهدف الاستراتيجي من العدوان بتهجير أبناء غزة، بعد تحقيق الهدف الميداني - العسكري بالسيطرة على المدينة ومحيطها، حيث جاءت المناورة المركبة للسيطرة على مجمع الشفاء بعد الادعاء الكاذب بأنه حاضن لبنية عملياتية وعسكرية لحماس.
أخيرًا، يبقى الفاصل في تحقيق هذه الأهداف الأميركية- الإسرائيلية أو في عدم تحقيقها، مرتبطًا بشكل كامل بمدى صمود المقاومة الفلسطينية وأهاليها وبنيتها الشعبية، والتي كما يبدو حتى الآن، تسطّر ملاحم تاريخية في مواجهة وحدات العدو، قد لا ينقصها لتحقيق الانتصار عليه إلا مسافة عدة أسابيع ليس أكثر، حيث يتسارع الانهيار الإسرائيلي نتيجة تزايد الانقسامات السياسية على خلفية الفشل الميداني وعلى خلفية ضخامة الخسائر من قتلى ومصابين في جيش الكيان، وعلى خلفية التحوّل الملفت في الراي العام العالمي نحو إدانة الجرائم الإسرائيلية، وليحقق حينها الشعب الفلسطيني بكامل فصائله وأطرافه انتصار التحرير وزوال الاحتلال.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024