آراء وتحليلات
المشروع الإيراني وطوفان الأقصى
ايهاب زكي
قديماً وتحت وطأة التيار الجارف المتعاطف والمتضامن شعبياً مع قضية فلسطين، لم يكن يجرؤ حاكم عربي على إعلان نواياه الحقيقية بالتخلي عن فلسطين، ولم يكن ليجرؤ على الإعلان عن أن تخليه هذا ومداراته للعدو، هي الثمن الوحيد لبقائه في منصبه، كموظفٍ وضيع لدى الإدارة الأمريكية.
ولكن بعد عقدين من شيطنة إيران في العقل الجمعي العربي والمقاومة ومحورها، صار بإمكانهم الإعلان عن ذلك سلوكياً وفعلياً، وإن ظلت اللازمة اللفظية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، أنّ فلسطين هي القضية المركزية.
وهذا بطبيعته انسحب على الإعلاميين والصحفيين والمثقفين والمفكرين العرب، الذين يقتاتون على موائد أولئك الحكام، فأصبحوا يعلنون مواقف الحكام الفعلية التي لا يستطيعون التلفظ بها علناً.
فقد أصبح النضال الفلسطيني مشروعًا إيرانيًّا، وبات التصويب على المقاومة سهلاً ومستساغاً، باعتبارها مشاريع إيرانية تستهدف أمن العرب واستقرارهم وسيادتهم، وهكذا أصبحت الوقاحة تُسمى تحليلاً، والخيانة تُسمى كفاحاً، وأصبح بإمكان أي جاسوس أن يمسك القلم ويكتب "حماس دمرت غزة، لصالح مشروع إيراني"، ثم يذرف الدموع على مآسي الشعب الفلسطيني ضحية إيران، ويدعو متنافخاً لمقاومة هذا المشروع عبر الاستسلام لمشاريع الكيان الزائل، ثم يلقى تصفيقاً وتهليلاً، لا صفعاً بالأحذية، من جمهورٍ اعتاد البلاهة الغرائزية.
في المقابل هناك كيانٌ آيلٌ للزوال، يتشبث بسرقاته حتى الرمق الأخير، ويعلن وزير ماليته بكل صفاقة عن أنّ الحل في غزة هو "تهجير سكانها إلى بلادٍ أخرى"، وللمفارقة أنّ أسبابه المعلنة لاقتراحه، هي ذات أسباب الأعراب سالفي الذكر، أي الحزن على شعب فلسطين والزج به في محرقة المشاريع الإيرانية، فيقول سموتيرتش "يكفي 75 عاماً من البؤس والقتل والتهجير".
ولكن الحقيقة أنّ كل هؤلاء من صهاينةٍ عرب وصهاينةٍ يهود، مصيرهم أقرب سلة مهملات، وفي وقتٍ أسرع مما يظنون.
في ثمانينيات القرن الماضي، حين اجتاح الكيان الزائل لبنان، قال شارون إنّه "سيأتي بياسر عرفات في قفصٍ ليضعه في غزة"، وبما أنّ شارون لم تسمح له الأقدار برؤية زوال الكيان من الوجود، ولكن أعتقد أن هناك من سيحقق أمنيته، بأن يأتي بنتنياهو وسموتيرتش وبن غفير وغانتس وغالانت، جميعهم أو أحدهم، ليضعهم في أقفاصٍ، ويلقي لهم الزوار بعض الفستق والموز.
بعد أربعين يوماً من العدوان الصهيوني الأمريكي الغربي على غزة، وفشل جيش المرتجفين في تحقيق أيّ صورة انتصار، يبدو أنّ الرهان هو على حرب التجويع التي يمارسها العدو بمساعدةٍ من نظامٍ عربيٍ رسمي، فإن كان القتل لا يدفع غزة لرفع راية الاستسلام، فإنّ القتل والجوع سيجعلانها تفعل وفق أحلامهم، وهذا هو التفسير الوحيد لإبقاء معبر رفح مغلقاً إلّا لما أراد الكيان ووقتما أراد وكيفما أراد.
وبعد أربعين يوماً من القتل والتدمير والتجويع والتشريد والقهر، لا خيار أمام الكيان سوى الهزيمة، ولا خيار أمام غزة سوى الصمود والانتصار، مهما كانت طرائق الإخراج، هدنًا إنسانية أو وقفًا للنار وصفقة تبادل، فكل الطرق تؤدي لهزيمة العدو.
الحقيقة لا أدري إن كان محمد الضيف حين اتخذ قراره بإطلاق الطوفان، كان في مخيلته أنّها ستكون كأمهات معارك الأمة الكبرى في عين جالوت وحطين مثلاً، والتي غيّرت مجرى التاريخ، وأنّه سيدخل التاريخ على المستوى الشخصي، وينشئ كتاباً جديداً للتاريخ، غزة هذه البقعة البائسة المحاصرة هي أول سطوره، لأنّ العالم بعد الطوفان ليس كما قبله، لذلك فمهما أوتي الكيان من وحشيةٍ وقذارة، لن يستطيع إعادة عقارب الزمن، فقد وضعه الطوفان على حافة المنحدر، والذي لا نهاية له سوى زوال الكيان.
وعلى سبيل الملاحظة، فعلى الكتاب والمحللين الكفّ عن متلازمة "توقف قطار التطبيع، لأن الطوفان أثبت أنّ الكيان غير قادرٍ على حماية نفسه، فكيف يحمي المطبعين؟"، لأنّ العكس هو ما يحدث، وإن لم يزُل الكيان، فإنّ قطار التطبيع سيتسارع، حيث أثبت الكيان أنّه قادر على حماية الأنظمة العربية مهما ارتكبت من بشاعات بحق شعوبها، لأنّه بالأصل لا أعداء لها سوى شعوبها، وقضية جمال خاشقجي ليست عنّا ببعيدة، فلولا المساندة الصهيوأمريكية لتغيّر مصير بن سلمان، لذلك فإنّ الطوفان سيجعل الأنظمة العربية أكثر تمسكاً بالتطبيع بل أكثر اندفاعاً إليه.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
12/11/2024
حسابات حقول العدوان وبيادر الميدان
11/11/2024