آراء وتحليلات
"صراع الحضارات" في حرب غزة.. الادّعاء المزيّف للغرب المتوحّش
د. زينب طحان
لفتني مقال في موقع "العهد" يحمل عنوان "حرب الإبادة وصراع الحضارات في المفهوم الأمريكي – الصّهيوني.. حرب غزة نموذجًا"؛ قدّم استعراضًا جيدًا لصورتنا في رؤية الآخر الغربي منطلقًا من مفهوم ما يسمّونه "صدام الحضارات" وما يحمله من خلفيات دينيّة؛ لكن ما أودّ الإضاءة عليه، في إضافة لهذا المقال، أنّ الادّعاء بهذا الصدام يقوم على سرديّة كراهيّة المسلمين للحضارة الغربيّة ورفضهم لها، والذي سيدفعهم إلى محاربتها، ومن يمثلها هي أميركا القوى العظمى حاملة لواء هذه الحضارة.
صحيح أنّ رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ألبس حرب إبادة الفلسطينيين لبوس "البناء الحضاري" للصراع، في قوله: "نحن لا نخوض حربنا فقط، بل نخوض حرب جميع الدّول والشّعوب المتحضرّة.. وهي حرب ضد "القاعدة" و"النازيين الجدد" بالنيابة عن القوى الغربيّة.. وأنّها حرب تسعى إلى تحقيق السّلام في الشّرق الأوسط، ولن يكون مثل هذا السّلام ممكنًا إلا إذا دُمرت خلافة داعش"- ويقصد بداعش حركة حماس- لكن هذا الإلباس ليس محاولة منه لابتزاز الغرب- كما يقول المقال- بقدر ما هو تذكيرهم بأنّ التحدّي الحضاري للغرب من جهة الشّرق هو النمو السّكاني لعالم المسلمين "الذين ينجبون أفواجًا من المتطرّفين، مجنّدين جدد للأصوليّة والإرهاب والتمرّد والهجرة"، بحسب نظريّة "صموئيل هنتنغتون"، والذي يقول بالتحدّي الإسلامي للحضارة الغربيّة والرافض لها، أي أنّ الاستراتيجيّة الأمريكيّة تقوم على ملاقاة هذا التطوّر في القرن الحادي والعشرين، طبعا إضافة إلى التحدّي الصّيني، وهذا موضوع آخر.
يتجاهل "هنتنغتون"؛ عن قصد، في تفسيره سبب تلك الكراهيّة من المسلمين تجاه الغرب الوجودي الصهيو- الأميركي في بلادنا المتمثل بـــــ"إسرائيل"، فانحياز الولايات المتّحدة المطلق؛ وقبلها فرنسا وبريطانيا، لكيان محتلّ لأرض عربيّة، أوجد القضيّة الفلسطينيّة بكلّ تبعاتها السّلبية على الصعد الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة العربيّة خلال 75 عامًا وأكثر، وربما لم تكن الشّعوب العربيّة التي نالت حريّاتها بدحر الاحتلال الغربي تكنّ كلّ ذاك العداء نحو الغرب لولا وجود "إسرائيل" على الخريطة العربيّة، بل إنّ الحكومات العربيّة كانت متجّهة أكثر للتماهي مع التقدّم الغربي والثقافة الغربيّة في المراحل الأولى من الاستقلال، وحتى في مراحل سابقة للاستعمار الأوروبي، فإرساليات "محمد علي باشا" إلى الدول الغربيّة للأخذ بأسباب التقدّم الغربي اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، أثّرت في ما سُمّي بـــــ"عصر النهضة العربيّة" الذي أسهم في إنجاب مفكّرين عرب ومسلمين، مع تحفظّنا الشّديد على تلك المرحلة وما جرى فيها، وعلى بعض أولئك المفكّرين وأفكارهم.
في هذا السّياق؛ تجدر الإشارة إلى مفارقة مهمّة متمثلة بالواقع المستحكم بمصير شعوبنا العربيّة، وهي قيام الحكومات الديكتاتوريّات في بلادنا- والتي استخلفها الاستعمار بعد اندحاره عسكريًا- ولا سيما منذ سبعينيّات القرن الماضي التي عززت ذاتها بالاتكاء على القضيّة الفلسطينيّة والادعاء الكاذب بمعاداة الغرب وتحرير فلسطين، والذي أخذ مداه في مجتمعاتنا بالرغم من وهمه وكذبه. فمع أنّ تلك الديكتاتوريات كانت أهم حلفاء الغرب في العمق، إلا أنّ خطابها في الظاهر بقي معاديًا للغرب ولــــ"إسرائيل" على الدوام- إن سمعت خطابات الزعماء العرب في القمة العربيّة – الإسلامية، في العاصمة السعودية منذ يومين(السبت 11-11-2023)، لأدركت حجم النفاق الذي ما يزالون يمارسونه على شعوبهم- في المقابل بنت الشّعوب العربيّة والإسلاميّة ثقافتها بالفعل على المظلوميّة الحقة الناتجة عن قضيّة فلسطين، وكان عداؤها للغرب و"إسرائيل" أكثر حقيقية من عداء الأنظمة الشكلي لها. ولذلك؛ فإنّ الكلام عن عداء ثقافي إسلامي للغرب لم يكن ليكون صحيحًا، في الأعم الأغلب، لولا وقوف الغرب الدّائم مع "إسرائيل"، ودعمه للديكتاتوريات التي كرست هذا العداء، لتحصيل شرعية مُفتَقدة من شعوبها.
إزاء هذا الواقع؛ ينكشف وجه كاذب في اختلاق نظريّة "صدام الحضارات"، حيث ثبت تاريخيًا أنّ إرادة الغرب السّياسي تسعى لإبقاء شعوبنا تحت حكم الديكتاتوريات، والتي هي بدورها تمنعنا من التطوّر وتحرمنا من إطلاق الطاقات الكامنة عند شبابنا خدمةً للمصالح الغربيّة وتسهيلًا لسيطرتها على الثروات ومقدّرات البلاد. وهي بذلك توفّر له تحقيق مصلحتين رئيستين: اقتصاديّة وأمنيّة، البترول وحماية أمن "إسرائيل". ولذلك كلّه نجد أنّ الغرب السّياسي يخشى بالفعل من الحريّة الحقيقية لشعوبنا، لأنّها ستعجّل من فقدان سيطرته لما تحمله تلك الطاقات من إمكانات مبدعة وخلاقة بالمعنى الاجتماعي والسّياسي والاقتصادي والعلمي، ولذلك هو ركض سريعًا، رئيسًا بعد آخر، للقدوم إلى "إسرائيل" بعد نزول النكبة فيها بعملية "طوفان الأقصى"، وما تمثله من تهديد وجودي حقيقي لكيانهم الفعلي في بلادنا.
في كتابه "خيانة المثقفين"؛ يردُّ المفكّر الفلسطيني- الأميركي الراحل "إدوارد سعيد" على طرح "هنتنغتون" بما أسماه "صدام الجهل"، ويصفه بــ"الكاتب الأخرق والمفكّر السّمج"، ويصل إلى نتيجة حصيلتها أنّ تلك :"هي المشكلة مع الأوصاف المميزة التجهيليّة للإسلام والغرب: إنّها تضلّل وتشوّش الدماغ، وتحاول أن تمنطق حقيقة منافية للأخلاق لا يمكن وضعها على الرفّ أو تطويقها بسهولة". لكن تحليلات "الكاتب الأخرق والمفكّر السّمج" وتركيزه على "المصلحة المحدودة السّطحيّة بشكل مضحك" شغلت الرأي العام الثقافي والسّياسي في الغرب عمومًا لأكثر من عقد من الزمن، وأصبحت إحدى المبادئ النظريّة والإيديولوجيّة الصانعة لسياسة الولايات المتّحدة بعد الحرب الباردة وانهيار الاتّحاد السّوفياتي السّابق، فهل "صدام الجهل" هو جهل للصدام؟! أم أنه تجهيل للقارئ العربي بأهميّة أن يصبح صدام الحضارات هو النموذج الحاكم للسياسة الأمريكيّة تجاه العالم، والعالمين العربي والإسلامي بشكل خاص!
في الواقع؛ أنّ نظريّة "صدام الحضارات" لم يُكتب لها هذا الامتداد وأن تتسلّح بها الولايات المتّحدة- والتي هي من أوعز باختلاقها فكريًا وفلسفيًا- لو أنّ هناك وجودًا لنظريّة مضادة أو بديلة تصدرت المشهد. يذكر في هذا السّياق، ما طرحه الرئيس الأسبق للجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة محمد خاتمي في محاولته طرح نظريّة "حوار الحضارات"، بما حملته من جذور فكريّة وتاريخيّة متأصلة، مثلما هو واقع الحال عند طرح المفّكر الإسلامي- الفرنسي الراحل روجيه غارودي، ولكن لم تتصدّر هذه النظريّة الواجهة العالميّة وذلك لأسباب شائكة، صعب الخوض فيها في هذا المقال السريع.
لكن تكمن المفارقة الأكبر، في هذا الطرح المختلق لشيء اسمه "صدام الحضارات" هو اعتراف صاحب النظريّة نفسه بأن الغرب يعاني، في اعتقاده بعالميته، ثلاث مشكلات بقوله:" فهو اعتقاد زائف، وغير أخلاقي وخطر. أما عن كونه زائفًا فتلك هي الفرضيّة المركزيّة لهذا الكتاب- صدام الحضارت-… وأما عن كونه اعتقادًا غير أخلاقي فذلك بسبب ما يجب عمله لكي يتحقق ذلك… فالاستعمار هو النتيجة المنطقيّة الضروريّة للعالميّة. كما أنّ أي محاولة لعمل ذلك ستكون ضد القيم الغربيّة الخاصة بتقرير المصير والديمقراطيّة… إنّ عالميّة الغرب خطر على العالم؛ لأنّها قد تؤدي إلى حرب بين دول المركز في حضارات مختلفة، وهي خطر على الغرب؛ لأنها قد تؤدي إلى هزيمته".
هذا بالفعل ما يتبدّى أو بدأ ينكشف من خلال حرب غزة وما خلّفته العمليّة العبقرية "طوفان الأقصى"، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إذ أفضى الأخذ بهذه النظرية أميركيًا بدعم الاستعمار لبلادنا عبر "إسرائيل" بشكل مناقض تمامًا لما تدّعيها من قيم حقّ تقرير المصير والديموقراطية، وجانب آخر هو تدخلاتها غير المشروعة في العديد من دول العالم كي تتسيّد البشريّة. وها هي تحصد نتائجه بشكل سيؤدي في نهاية المطاف إلى هزيمتها مثلما يتنبأ لها "هنتغتون"، وما انقلاب الشارع الغربي المتضامن مع غزة، في هذه اللحظات، إلا إشارات دامغة لتحوّل ثقافي مؤثر مستقبلًا يفضي إلى الحدّ من عالمية "أميركا". لذلك "هنتنغتون" دعاها "لاتخاذ التدابير الضروريّة الكفيلة بتلافي هذا الخطر الماحق"، بالتخلي عن فكرة عالميّة ثقافة الغرب. وذلك يعطي معنىً سياسيًا واضحًا لتأكيداته وتحذيراته الموجّهة "للغرب السّياسي" وصانعي السّياسة في الولايات المتّحدة من أنّ الحضارة الأولى المهدّدة للغرب في القرن الواحد والعشرين هي الإسلاميّة.
لقد أثبتت حرب غزة أنّ ادّعاء الغرب بامتلاكه وحده التحضّر والرقي هو كذب وافتراء، اكتشفته الشّعوب الغربيّة حيال حكوماتهم قبل أي شعوب أخرى حين كشفت الصور الحقيقيّة المجازر بحقّ المدنيين والأطفال وحشيّة "إسرائيل المتحضرة" وفقا لوصف "نتنياهو" ومن خلفه وحشيّة الولايات المتّحدة الأميركيّة الداعمة المطلقة، والتي ما تزال حتى اللحظة تطرّ على عدم وقف إطلاق النار.. وهذا تأكيد ثابت على همجيّة هذا الغرب السّياسي الاستعماري.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024