آراء وتحليلات
غزة تصدم حسابات العدو الدموية
علي عبادي
بعد شهر على بدء "طوفان الأقصى" وما تبعه من عدوان وحشي صهيوني على قطاع غزة اتخذ منحى الإبادة الجماعية، تترقب الأنظار ما سينتج عن المعركة البرية بين جيش العدو والمقاومة الفلسطينية. هناك سباق محتدم بشأن الخيارات العسكرية والمستقبلية لما بعد الحرب.
يشتغل العدو على أهداف استراتيجية وتكتيكية محددة يمكن تلخيصها بالآتي:
- إفراغ قطاع غزة من أهله ودفعهم للهروب إلى مصر، وذلك لتجفيف منابع المقاومة وتغيير بيئة الصراع في هذه المنطقة لوقت طويل. ولذلك، يعمد إلى ارتكاب عمليات إبادة ومحو من الوجود بحق المناطق المأهولة فيها والمرافق التي لجأ إليها النازحون الذين فقدوا منازلهم أو تركوها بسبب تعذر الحياة فيها. ويركز العدو على المستشفيات ومدارس الأونروا التي تؤوي آلاف النازحين في شمالي القطاع، لدفعهم إلى التوجه جنوباً، قبل أن ينتقل إلى المرحلة الثانية ضد وسط وجنوبي القطاع. كما يهدف إلى جعل هذه المناطق غير قابلة للعيش فيها بفعل منع الغذاء والماء والدواء والمحروقات عنها.
- في حال لم يتسنَّ للعدو تحقيق الحدّ الأعلى من هذه الأهداف الإستراتيجية، سيسعى لتحقيق حدّ أدنى وهو إيجاد منطقة أمنية (محروقة) عازلة داخل القطاع لإقناع المستوطنين بالعودة إلى مستوطنات "غلاف غزة". كما يتبلور سيناريو آخر وهو احتلال القطاع ككل وإبقاء السيطرة الأمنية عليه لفترة طويلة، وسط مساع تُبذل وراء الكواليس بدفع أميركي لإجراء ترتيبات تهدف الى تسليم السلطة الفلسطينية إدارة القطاع. وهنا يصرّ الإحتلال على الاحتفاظ بإمكانية الدخول عسكرياً إلى القطاع ساعة يشاء لإجراء عمليات دهم واعتقال، تماماً كما يفعل في مناطق عدة من الضفة الغربية تخضع لإدارة السلطة الفلسطينية.
- يعمل العدو عبر عمليات تدمير منهجية للمباني السكنية للوصول إلى هدف عسكري تكتيكي يتمثل بتسهيل التوغل البري أمام قواته التي تقوم بمحاولات لعزل شمالي القطاع ومدينة غزة.
وتواجه استراتيجية العدو التي تعتمد وسائل وحشية بالغة الشدة صعوباتٌ عدة، من جملتها:
- صمود غالبية الناس في منازلهم والأماكن التي لجأوا إليها، وتشير تقديرات إلى أن حوالي 900 ألف نسمة لا يزالون يقيمون في مناطق شمالي قطاع غزة، وهذا رقم كبير بالمقارنة مع عدد سكان القطاع البالغ 2.2 مليون نسمة تقريباً. هذا في وقت لاحقت طائرات العدو المدنيين الذين حاولوا النجاة بأنفسهم أثناء التوجه إلى جنوبي القطاع الذي لم يسلم من القصف وإن على نطاق أضيق نسبياً.
- عدم تمكّن العدو بعد شهر على اندلاع المعارك من إحكام السيطرة على المناطق التي دخلها، إذ يواجه حرب فدائيين وعمليات كرّ وفرّ يقوم بها المقاومون الذين يهاجمون آليات الإحتلال بالقذائف الصاروخية والعبوات الناسفة قبل أن يختفوا مجدداً في الأنفاق المُعَدّة كمخابئ. ويتكبد العدو خسائر كبيرة في الأفراد والآليات يتم التكتم عليها، حيث لوحظ أنه لم يعد يعلن عن حصيلة كبيرة للخسائر برغم الاعتراف بضراوة المقاومة في عدد من المحاور.
- عدم قدرة العدو على تحديد مهلة زمنية لتحقيق أهدافه المباشرة والتي تتلخص بإخضاع القطاع عسكرياً والقضاء على حركة حماس قيادة وجسماً عسكرياً وحكماً إدارياً.
- وإضافة إلى الصعوبات الميدانية وعدم واقعية الأهداف، ظهرت إلى العلن مؤشرات على ضعف الانسجام داخل الحكومة الإسرائيلية (تنافر بين نتنياهو وشريكه الحكومي بني غانتس ووزير حربه يوآف غالانت) وعدم وجود قيادة قادرة على استعادة الثقة الداخلية، ما يؤثر على التحكم بمسار الأمور.
- ظهور تجاذب بين حكومة الاحتلال والإدارة الأميركية التي تقدّم الدعم المطلق لآلة الحرب الصهيونية، لكنها تريد من حليفتها "إسرائيل" تحديد أهداف قابلة للقياس والتطبيق، وكذلك تقييد المهلة الزمنية للعمليات العسكرية تحاشياً لانعكاسات إقليمية ودولية تضرّ بالمصالح الأميركية، كما بالمصالح الإسرائيلية، لا سيما في ضوء الخشية الأميركية من ردود قوى المقاومة في المنطقة والتي تظهر على شكل عمليات ضد القوات الأميركية في سوريا والعراق وعمليات من لبنان وسوريا والعراق واليمن ضد الكيان الصهيوني. يأتي ذلك في ظل دلائل على وجود اعتراضات داخل الخارجية الأميركية وصفوف الحزب الديمقراطي الأميركي بسبب سياسة الدعم المطلق لـ"إسرائيل"، بينما ينخفض مستوى التأييد الشعبي للرئيس بايدن بشكل ملحوظ مع بدء الإستعدادات للإنتخابات الرئاسية التي ستجرى العام المقبل.
- تضرُّر مكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي بشكل بالغ، نتيجة انتشار صور المذابح الإسرائيلية اليومية التي تُرتكب يومياً في غزة بالسلاح الأميركي والتغطية السياسية الأميركية. ونقلت شبكة ABC الاميركية عن دبلوماسيين غربيين ان الأزمة في غزة ألحقت الضرر بالتحالفات وأدت إلى تأجيج التطرف المحتمل في الدول الغربية وتركت الولايات المتحدة و"إسرائيل" والدول الغربية معزولة بشكل متزايد. وللإلتفاف على ذلك، تسعى الادارة الاميركية الى تقديم مبادرات شكلية لناحية تمرير مساعدات انسانية محدودة الى القطاع وإجراء تهدئة لساعات معدودة بعنوان "هدنة إنسانية" وحثِّ جيش الاحتلال الذي يتسلم القنابل الاميركية الفتاكة على تخفيف التعرض للمباني السكنية والتركيز على مقاتلي المقاومة. في وقت يواصل البيت الأبيض تأكيده أنه لا توجد "خطوط حمراء" بالنسبة لـ"إسرائيل"، وفق ما عبّر المتحدث باسم مجلس الامن القومي الاميركي جون كيربي.
على الرغم من ذلك كله، يريد رئيس الوزراء الصهيوني من الولايات المتحدة تفويضاً مطلقاً ودعماً بلا حدود من أجل تطبيق أجندة الحكومة اليمينية التي تعتقد أن هناك فرصة متاحة لتنفيذ عملية ترحيل أهالي قطاع غزة وإشباع الرغبة العارمة في الانتقام بعد نكبة 7 تشرين الأول. لكن رئيس الوزراء الصهيوني السابق إيهود باراك أقر في حديث لصحيفة "بوليتيكو" الأميركية بأن "أمام إسرائيل أسابيع فقط لهزيمة حركة (حماس) بسبب تضاؤل التعاطف العالمي معنا". وعموماً، حصل تبدّل هام جداً في صورة الضحية التي كانت تستند إليها "اسرائيل" لتبرير سياساتها العدوانية، وحصلت صحوة في صفوف الرأي العام الشعبي الغربي الذي صُدم بمدى العنف الصهيوني والتصريحات الرسمية التي تبرّره وتتبجّح به، ما يهدد بتفكك قاعدة التأييد الغربية لكيان الاحتلال كلما طال أمد العدوان على غزة. وأكثر من أي وقت مضى، بات هناك في الغرب إدراك أكبر لأهمية إقرار حقوق الشعب الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بصرف النظر عن الجدل المرتبط بجزئيات هذا الموضوع.
ومع انقلاب "الصورة الناعمة" لكيان الاحتلال في الغرب والصعوبات التي يواجهها في الحرب الدائرة، ستحدد نتائج المواجهة البرية على أرض قطاع غزة مسار الأوضاع، وقد تدفع إلى تكثيف عمليات قوى المقاومة في الإقليم. وتشير جميع هذه التطورات إلى أن العدو في مأزق كبير بدأ في 7 تشرين الأول، وبات يدرك أن عليه التكيف مع نتائج هذا الزلزال إلى وقت طويل بالرغم من محاولاته لتغيير الواقع على الأرض.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024