معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

عدوان
03/05/2019

عدوان "عناقيد الغضب": سياقاً ورسائل ومفاعيل

جهاد حيدر
لم يكن "تفاهم نيسان" الذي تبلور في أعقاب فشل عدوان "عناقيد الغضب" عام 1996، مجرد تجسيد لانتصار المقاومة على جيش العدو، بل ايضاً محطة تأسيسية في أكثر من اتجاه. توالت مفاعيله تباعا ومهدت الطريق نحو تحرير العام 2000، ونحو تطوير معادلة ردع حمت المقاومة وعمقها اللبناني.
 
من غير الممكن الفصل بين مرحلة ما قبل عدوان عناقيد الغضب، وما بعده. بل إن فهم مرحلة ما بعد، مرتبط أيضاً بفهم سياقات ورهانات ما قبله. فالعدوان أتى ترجمة لقرار استراتيجي استند إلى رؤية وتقدير تتصل بالمسارات التي أملتها المقاومة على أرض الميدان وبالمعادلات التي أسست لها.   

أتى عدوان "عناقيد الغضب" في مواجهة نجاح المقاومة، في استمرار توجيه الضربات المؤلمة لجنود الاحتلال في منطقة الحزام الامني. وبعدما فشلت كل اجراءات الحماية والتحصين لقوات الاحتلال التي رأت أنه لم يعد أمامها من وسيلة إلا بالانتقال الى الضغط على البيئة المدنية الحاضنة للمقاومة بهدف تشكيل ضغط شعبي على المقاومة لايقاف اطلاق الصواريخ. وثبت ايضا أن من الاهداف التي كان لها ارضية فعلية، هو ايجاد ضغط سياسي لبناني ـ سوري على المقاومة بحجة أن استراتيجيتها في المواجهة تسبب بتدمير لبنان والبنى التحتية، وهو ما تجلى في التحرك اللبناني السوري للضغط على المقاومة.

لكن الذي حصل أن الرئيس حافظ الاسد كانت له نظرته الثاقبة في ذلك الحين. وأدرك أنه لم يكن يوجد في ظل البيئة الاقليمية والدولية التي تبلورت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وتدمير العراق، من عناصر قوة اقليمية، سوى المقاومة في لبنان. وأثبتت هذه المقاومة في كل مراحلها السابقة حتى العام 1996، أنها تتمتع بالحكمة والحزم والصلابة التي تؤهلّها لصنع الانتصارات. ومن هنا كان همّه وسؤاله للمقاومة في حينه ـ في مواجهة الجو السياسي المحيط به حول ضرورة وقف المقاومة، الى متى تستطيعون الصمود. وبعد أن تلقى جواباً شافياً مطمئناً لم يتردد في توفير مظلة اقليمية تحمي ظهرها، على عكس كل الاتجاه السياسي العام في حينه. وهكذا فشل الرهان الاسرائيلي بشقيه السياسي والشعبي ايضا.

أتى العدوان، بعد فشل محطات سابقة فشلت ايضا في قمع المقاومة. وتحديداً بعد عملية تصفية الحساب" عام 1993، التي انتهت في حينه الى تفاهم الكاتيوشا، وقبل ذلك اغتيال السيد عباس الموسوي الذي هدف ايضا إلى إسقاط المقاومة. فشل هذه المحطات دفع قادة العدو الى البحث عن خيارات عسكرية بديلة لقمع المقاومة.  

من الواضح أن العدو لم يكن لديه في ذلك الحين تصور واضح حول قدراتها الصاروخية، وحول المدى الزمني الذي يمكن أن يبلغه صمود المقاومة وقدرتها على مواصلة استهداف شمال فلسطين المحتلة بالصواريخ، في ظل سيطرة جوية تامة. في المقابل، فإن مفاعيل عدوانه السياسية والردعية كانت مرهونة بالدرجة الاولى بقدرتها على اسكات الصواريخ. لأنه في حال استمرار سقوط الصواريخ على شمال فلسطين المحتلة، فهذا يعني أن الضغط سيكون متبادل وغير محصور بالساحة اللبنانية. وفي هذه الحالة، لن يستطيع العدو أن يثمِّر ضغطه الميداني على طاولة المفاوضات التي كان يديرها الاميركي.

هذا ما يُفسر في المرحلة الاولى من العدوان اصرار كيان العدو على شروطه وعلى سقفه العالي الذي بقي متمسكاً به الى حين يأسه من قمع المقاومة وردعها، وبعدما لمس تصميما على مواصلة الضغط الصاروخي على مستوطنات الشمال، وعدم الاستعداد لأي مرونة ازاء حق وواجب المقاومة بمواصلة عملياتها ضد جنود الاحتلال على الاراضي اللبنانية. ويعود نجاح حزب الله في تلك المرحلة الى ابتكاره تكتيكات عسكرية أدت الى الحد من مفاعيل التفوق العسكري في البر والبحر والجو والاستخبارات، وبما يمنح مقاتليه القدرة على المناورة والبقاء.

لم تقتصر مفاعيل عدوان "عناقيد الغضب" على فشل كيان العدو في تحقيق ما كان يصبو اليه في الميدان والسياسة والردع. بل شكل ايضا استنفاذا لخيارات راهنت عليها اسرائيل في مواجهة المقاومة. وبعد فشلها باتت مقيدة الى حد كبير في مواجهة استمرار العمليات.

مع ذلك، بقي أمام كيان العدو خيار عملاني بديل، وهو الذهاب في التصعيد الى مديات أبعد تصل الى حد الاجتياح البري لمناطق الجنوب حيث كانت تنطلق صواريخ الكاتيوشا في حينه. لكن استعدادات المقاومة، والتجربة المرة للعدو مع عملياتها، وحضور كل ذلك في وعي جيش العدو وقيادته السياسية وحساباتهم ردعه عن اللجوء الى هذا الخيار.

تبلور في أعقاب هذه المحطات، واقع بات فيه العدو مكبوحاً عن خيار الاجتياح البري، وعن العدوان الجوي الواسع، وعن التسليم بالواقع كما هو، وكان في الوقت نفسه، يخشى في حينه من مفاعيل الاقرار بضرورة الانسحاب.. وهو ما احتاج الى مزيد من الضغط الميداني، واستنفاذ بعض ما تبقى لديه من أوهام الذي تكفلت به ايضا عملية انصارية في ايلول/ سبتمبر العام 1997. وأدت تلك العملية البطولية، التي لم تقتصر نتائجها فقط على ابادة قوة النخبة في البحرية الاسرائيلية "شييطت"، الى سلبه ورقة الرهان على العمليات الخاصة. وبقي السجال الميداني متواصلا الى حين اندحار جيش العدو عن الاراضي اللبنانية المحتلة،(باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا) في ايار العام 2000.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل