معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

إدارة بايدن والولاية الأمريكية الواحدة والخمسون
11/10/2023

إدارة بايدن والولاية الأمريكية الواحدة والخمسون

بقلم د. حسن أحمد حسن(*)

ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى سارعت واشنطن لسحب لحاف الانتصار عن بقية الدول التي شاركت بفعالية في هزيمة النازية على امتداد سنوات تلك الحرب، ولكي تضمن التفرد بالإمساك بمقود قاطرة السياسة الكونية عمدت إلى خطوتين :عسكرية واقتصادية، حيث كان تشكيل حلف شمال الأطلسي من اثنتي عشرة دولة في الرابع من نيسان عام 1949م. وتضمنت المادة  الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي: " أي هجوم مسلح ضد إحدى الدول الأعضاء، يعتبر هجوماً ضد جميع الأعضاء، ويجب على الأعضاء الآخرين مساعدة العضو المعتدى عليه حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة المسلحة" مع العرض أن الحرب الباردة كانت في بداياتها بعد، أي أن حلف الناتو تم تشكيله ضد عدو متوهم أو مفترض، بعد رفض الاتحاد السوفيتي الانضمام وبقية دول أوروبا الشرقية إلى مشروع مارشال الذي طرحه في الخامس من حزيران 1947 الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية ووزير الخارجية الأميركي منذ يناير 1947 تحت عنوان إعادة تعمير أوروبا بعد الحرب. وقد وقع الرئيس الأمريكي هاري ترومان على المشروع في الثالث من نيسان 1948، وهكذا ارتبط القرار الأوروبي الغربي اقتصادياً وعسكرياً بالإدارات الأمريكية المتعاقبة التي أتقنت استغلال نفوذها بين حلفائها لتنتقل بذاك النفوذ، وتحاول فرضه على العالم أجمع، مما أبقى الأمن الدولي يعيش خطر إمكانية اندلاع حرب نووية على امتداد فترة الحرب الباردة التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو وانتهاء وجوده الفعلي، لتتفرد واشنطن بالقرار الكوني طيلة فترة الأحادية القطبية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة هذه الأيام.

باختصار شديد يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية اعتادت عبر العقود السابقة دس الأنف النتن والمشبوه في جميع بؤر التوتر التي كان لواشنطن دور أساسي في خلقها وإذكاء الاضطراب فيها، وركوب الموجة للتدخل سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، وحتى عسكرياً إن تطلب الأمر بذريعة حماية الحلفاء والأصدقاء الذين يستنجدون بواشنطن، لكن الغريب أن إدارة بايدن سارعت تلقائياً للإعلان عن إرسال أكبر بوارج الأسطول الأمريكي للتمركز مقابل شواطئ غزة بعد أقل من يومين على انطلاق عملية "طوفان الأقصى" وما أسفرت عنه من نتائج مذهلة حتى الآن، وهذا يتطلب التوقف بمسؤولية عند دلالات القرار الأمريكي وتداعياته المحتملة، ومن المفيد الإشارة إلى عدد من العناوين الرئيسة والأفكار المتعلقة بهذا الأمر، ومنها:

• أهمية التمييز بين الثابت والمتحول في السياسيات الدولية، فكل ما تم تسويقه عن خلافات جوهرية بين واشنطن و"تل أبيب" لا يتجاوز حدود المتحول الدائر حول المركز الثابت في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ووصول الخلافات مستوى غير مسبوق في عهد حكومة نتنياهو مع إدارة بايدن لا يعني القطيعة، ولا التخلي عن "تل أبيب"، بل المسارعة لتقديم العون الظالم والمساعدة والرعاية والحماية حتى من دون طلب.

• عملية "طوفان الأقصى" أقرب إلى حدود الإعجاز منها إلى الإنجاز، وقد شكلت "تسونامي" حقيقي في الفكر العسكري التقليدي القائم، وهي مؤهلة لتكون حاملة لأبعاد إستراتيجية تتجاوز بدلالاتها وتداعياتها جغرافية فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط بكليتها، فما يحدث اليوم سيكون "الماكيت" الوحيد الصالح لاعتماده منطلقاً للعلاقات الدولية وتوازن القوى وقواعد الاشتباك إقليمياً ودولياً، ولذا لا يحق لأحد، ولا لأية دولة أو جهة أو طرف تشويه عظمة ما تم إنجازه، ولا مصادرة دلالاته وقيمته الإستراتيجية التي تتطلب بعض الوقت لتتبلور معالمها بشكل واضح ومفهوم.

• بعد مرور قرابة يومين على انطلاق عملية "طوفان الأقصى" وتأكد عجز جيش الكيان الإسرائيلية عن استعادة زمام المبادرة واستيعاب هول الصدمة وشدة الصفعة التي تلقتها حكومة نتنياهو صدر بيان وزير الحرب الأمريكي المشغول فكره "بالعائلات الإسرائيلية" التي فقدت "أحبائها" حسب تعبيره، وكأن الفلسطينيين منذ ما قبل 1948 وحتى اليوم يرفلون بالرفاهية والأمن والطمأنينة والأمن والأمان، وكأنهم لم يفقدوا أحباءهم وأبناءهم وأعز ما لديهم، بعد احتلال أرضهم وزرع كيان الاحتلال فيها عنوة وتشريد أهلها والتنكيل بهم والعمل على إبادتهم بكل السبل برعاية ومباركة أمريكية مباشرة وغير مباشرة.

• لا يحتاج المتابع إلى كبير عناء ليرى حرص وزير الحرب الأمريكي لويد أوستن على إضفاء الشرعية والطابع الرسمي على قراره بتركيزه على أنه صدر بعد مناقشات تفصيلية مع الرئيس بايدن، وبالتالي لا داعي لأن يتعب أحد نفسه بالتفكير في تعدد مفاصل القرار الأمريكي، فالخطوات التي وجه بها أوستن تهدف على حد قوله إلى: "تعزيز موقف وزارة الحرب في المنطقة، وتعزيز جهود الردع الإقليمية" وهي مباركة بموافقة بايدن الذي سبق وأعلن صهيونيته وإن لم يكن يهودياً.

• قرار وزير الحرب الأمريكي يتضمن توجيه حاملة الطائرات "يو إس إس جيرالد آر فورد" إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وطراد الصواريخ الموجهة من فئة "تيكونديروجا يو إس إس نورماندي"، بالإضافة إلى مدمرات الصواريخ الموجهة من فئة "أرلي بيرك يو إس إس توماس هودنر" و "يو إس إس راماج" و"يو إس إس كارني" و"يو إس إس روزفل" إضافة لتعزيز أسراب الطائرات المقاتلة التابعة للقوات الجوية الأمريكية من طراز: F-35 وF-15 وF-16 وA-10 في المنطقة.

• بغض النظر عما يمتلكه جيش الكيان الإسرائيلي من أسلحة متطورة وترسانة من أحدث أسلحة القتل والتدمير الشامل، فضلاً عن الأسلحة النووية فإن إرسال ما ورد في بيان لويد أوستن للتمركز شرقي المتوسط يوحي وكأن المقاومة الفلسطينية من القوى العظمى، وبالتالي هي قوة عالمية وتشكل خطراً يهدد نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا شرف كبير وقيمة مضافة منحها أوستن من دون أن يدري للمقاومة الفلسطينية بخاصة، ولجميع أقطاب محور المقاومة بعامة، ويحق لكل منهم أن يفخر بذلك.

• أشار أوستن في بيانه إلى احتفاظ الولايات المتحدة بقوات جاهزة على مستوى العالم لتعزيز وضع الردع هذا إذا لزم الأمر، إضافة إلى ما ستقوم به "بسرعة بتزويد الجيش الإسرائيلي بمعدات وموارد إضافية، بما في ذلك الذخائر، وستبدأ الدفعة الأولى من المساعدات الأمنية بالتحرك اليوم وستصل خلال الأيام المقبلة"، مع التأكيد على البقاء على اتصال وثيق مع "الإسرائيليين لضمان حصولهم على ما يحتاجون إليه لحماية مواطنيهم والدفاع عن أنفسهم ضد هذه الهجمات الإرهابية الشنيعة"، ومثل هذا الكلام وإن كان مستهجناً ومتناقضاً مع كل ما له علاقة بإنسانية الإنسان وبالقانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة، إلا أنه غير مستغرب أن يصدر عن وزير حرب أمريكي فهو يعبر عن حقيقة مواقف الإدارات الأمريكية سابقاً وحالياً.

• القرار الأمريكي وفق بيان لويد أوستن يؤكد عدة نقاط جوهرية، ومنها:

ـ اعتراف علني بعجز الكيان الإسرائيلي عن حماية نفسه، وبالتالي هو أعجز عن حماية المصالح الأمريكية ومصالح بقية الأطراف الدائرة في الفلك الأمريكي طالما أنه لا يستطيع الاستمرار في الوجود إلاّ بمساعدة واشنطن وأتباعها، وبكلام آخر هذا يعني اقتراب انتهاء صلاحية "تل أبيب" كرأس حربة متآكل، ولا يعوَّل عليه رغم كل ما تم دعمه به طيلة العقود الماضية.

ـ اعتراف علني بالرغبة الأمريكية الجامحة بالقضاء على المقاومة الفلسطينية، وعلى كل من يتبنى نهج المقاومة ويرفض الإذعان للعربدة الأمريكية.

ـ رسالة طمأنة للتجمع الاستيطاني الإسرائيلي ليستعيد بعض توازنه ليتمكن من الوقوف من جديد، كما أنه إعلان رسمي للجميع بأن "تل أبيب" هي بوابة الرضا الأمريكي، وهذا يعني دعوة لعدم تأثر قطار التطبيع والتتبيع بما يحدث في فلسطين، فأمريكا بكل ثقلها مع عدوانية حكام "تل أبيب" مهما بلغت، وعلى جميع الأطراف ألا تنسى ذكر ذلك.

ـ تهديد لجميع أطراف المقاومة لترك غزة وحيدة في مواجهة الموت الحتمي القادم، وعلى أوستن ألا ينسى أنه سبق للمدمرات الأمريكية أن تمركزت في شرق المتوسط، وكانت" نيوجرسي" تقصف أطفال لبنان وأبناءه على مدار الساعة، وأرغمت على الفرار والانسحاب من المنطقة، ومن يتبنى نهج المقاومة لا يعدم الوسيلة ليرغم الإدارة الأمريكية الحالية على تكرار ما فعلته نظيرتها في ثمانينات القرن الماضي.

• بيان أوستن ليس صرخة منفردة في وادٍ، بل قرار يندرج في سياق العديد من التصريحات الأمريكية وعلى مختلف المستويات بدءاً بشاغل البيت الأبيض، وليس انتهاء بوزارة الحرب، وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن التذكير بمطالبة المرشحة الجمهورية المحتملة للانتخابات الرئاسية الأمريكية نيكي ‎هيلي، "بإنهاء غزة، وتحويلها إلى جحيم، لتدفع ثمن الهجوم"، ويبدو أنه في عرف المرشحة المحتملة: على العالم أن يصمت فهذه هي ثقافة اليانكي الأمريكي، كما أن السفيرة السابقة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة نشرت تغريدة على منصة "إكس"، شاركتها مع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وقالت فيها: (إن ما جرى في ‎غزة هجوم على الولايات المتحدة وليس على "إسرائيل" فقط).

• السؤال من المستهدف بمثل هذا الخطاب الاستكباري العدواني، بل المتوحش الخالي من الإنسانية؟.. إذا كان المقصود محور المقاومة فجميع أطرافه مقتنعون بأن ما ورد فيه يعبر عن حقيقة السياسة الأمريكية، ولا مبرر لأن يعذب المسؤولون الأمريكيون أنفسهم بالتعبير عن صهيونتهم وإجرامهم، فالعالم يدرك هذه الحقيقة التي لن تفيد واشنطن في فرملة انحسار هيبتها، ولن تستطيع تحصين الكيان الإسرائيلي وحمايته من الفصول القادمة من المواجهة المفتوحة وحساباتها لما تغلق بعد، ولن تغلق إلا باستعادة الحقوق والكرامة رغم أنوف طواغيت الكون، وإذا أصر أصحاب الرؤوس الحامية على نطح الجدران برؤوسهم والتهديد بحرب كبرى تمتد وتتسع، فعليهم أن يدركوا أن هناك من يتمنى ذلك وينتظر بفارغ الصبر حماقات واشنطن وتل أبيب لتفجير الصاعق، وعندها سيعض الظالمون على أيدهم ويقولون يا ليتهم كانوا تراباً.

خلاصة واستنتاج:

ـ ما أنجزته المقاومة الفلسطينية استراتيجي بكل المعايير، وله تداعياته الداخلية والإقليمية والدولية، وتحصين المنجز مسؤولية كل من ضاق ذرعاً بالعربدة الصهيو ـ أمريكية، واليوم على الجميع الارتقاء إلى مستوى المسؤولية، فتحرك الضفة الغربية يلزم أصحاب الرؤوس الحامية بتبريد الرؤوس بأوحال الفشل المفروض، كما أن دور الأشقاء في الأراضي المحتلة عام 1948 يكتسب أهمية كبرى حتى لو اقتصر على الخروج والهتاف "تحيا فلسطين"، ولا شك أن بقية أطراف محور المقاومة تعرف كيف تتابع دورها المشرف الذي هيأ البيئة الإستراتيجية المطلوبة للتفكير بالانتقال من الأحادية القطبية البغيضة إلى عالم متعدد الأقطاب، وإذا تمكنت واشنطن ـ لا سمح الله ـ من فرض رؤيتها الظالمة على المنطقة، فكل ما تم إنجازه على طريق إقصاء الأحادية القطبية الأمريكية سيصبح وكأنه لم يكن، وعلى المهتمين بإنهاء هذا الواقع الشاذ إدراك هذه الحقيقة، قبل فوات الأوان.

ـ القرار الأمريكي الذي أعلنه أوستن يؤكد أن الكيان الإسرائيلي هو الولاية الأمريكية الواحدة والخمسون، وإظهار العين الحمراء الأمريكية لنتنياهو في الفترة السابقة ليست أكثر من غضب ولي الأمر من ابنه المشاغب الذي قد يترتب على شغبه ما يفرض على الأب المجرم التدخل نصرة لابنه الظالم في وقت قد يكون الأب مشغولاً بعناوين أكثر أهمية، لكنها لن تمنعه من حماية ولده النتن مع "فركة إذن" للالتزام بالمسافة الممنوحة للمناورة والمشاغبة شريطة أن تبقى مضبوطة الإيقاع، وكل القرائن الدالة تشير إلى أنها خرجت عن ذلك، لا بل إن الإصرار على التدخل المباشر لحماية "تل أبيب" وشرعنة عدوانيتها سيقود إلى استهداف الجمل بما حمل "وعندها قد تتكرر كثيراً مقولة: "وعلى نفسها وأهلها جنت براقش".

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات