آراء وتحليلات
ثمار لن تسقط أبدًا
أحمد فؤاد
من الأردن إلى المغرب مرورًا بمصر، تجتهد الحكومات والأنظمة في الدفاع عن الوصاية المفروضة من المؤسسات المالية الدولية ـ صندوق النقد والبنك الدوليين ـ وإمرار إصلاحات تعصف بالطبقتين الوسطى والفقيرة، وتمنح في المقابل المزيد من الامتيازات والأرباح لأصحاب رؤوس الأموال المحليين، وللجهات الدولية الدائنة، انتظارًا لما يؤمن به الغالبية من مسؤولين عن نظرية اقتصادية وهمية هي "تساقط الثمار".
النظرية ببساطة غير مخلة تدعو الحكومات إلى منح مزيد من الإعفاءات والتخفيضات الضريبية والمزايا للرأسماليين، حتى يتمكنوا من التوسع في الاستثمار وخلق وظائف، وبالتالي دفع أجور أكثر، وتفرض أن يصبر مجموع الناس على ما يسمى "الإصلاح الاقتصادي" حتى يستطيع أصحاب رؤوس الأموال مراكمة الأرباح والتوسع في النشاط، ولتتحمل الغالبية من المواطنين لسنوات حتى تسقط ثمار النمو الاقتصادي من الأعلى إلى الأسفل.
ودخلت النظرية المشؤومة إلى المنطقة العربية بقوة الدفع الذاتي، عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، وانتشار العولمة، ونشأة فكر اقتصادي يطلق عليه اسم "مدرسة شيكاغو للاقتصاد" من خلال مجموعة من الاقتصاديين في الولايات المتحدة، ويدعو إلى حرية السوق، وخصوصًا سوق التجارة الخارجية، وإلى الخصخصة وعدم وجود قطاع عام والاستقرار المالي والنقدي، وهو ما يتبع فكر المدرسة اليمينية المتشددة في النظام الرأسمالي، ويعطي الأولوية لتحقيق "النمو الاقتصادي" الرقمي الجاف، أما قضايا توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية ورفع مستوي المعيشة فهي قضايا ثانوية.
ويمكن ببساطة رد الكوارث المتعاقبة للاقتصاد المصري، خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى إتباع فكر "مدرسة شيكاغو"، بكل ما ترتب عليه من تقزيم دور الدولة، وخروجها من العملية الإنتاجية، والاكتفاء بدور "مقاول" للمرافق العامة، والاستغناء عن الصناعة لمصلحة ترك البلد بالكامل تحت رحمة طبقة احتكارية محلية، تستفيد من شراكات مع الطبقة الناهبة الأجنبية، وبالتالي تجتهد في نزح فائض قيمة العمل من البلد إلى الخارج بشكل دوري ومستمر.
واجتهدت الحكومات المصرية المتعاقبة في تحقيق كل شروط النظرية، بداية من حكومة عاطف صدقي (1986-1996) في بيع الشركات العامة، وضمان غلّ يد الدولة عن التدخل في الإنتاج أو التسعير، وطبقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) أنه بين عامي 1991 و2008 تم بيع 407 شركة من شركات قطاع الأعمال العام بحصيلة بيع بلغت أكثر من 57.3 مليار جنيه، بنسبة 9% من الشركات في عهد وزارة عاطف صدقي، 21% في عهد وزارة كمال الجنزوري (1996-1999)، 21.6% في عهد وزارة عاطف عبيد (1999-2004)، و48.4% في وزارة أحمد نظيف (2004-2011)، ونتج عن هذه السياسة إحالة أكثر من 500 ألف عامل إلى المعاش المبكر. وفي 2008، أصدرت الحكومة المصرية، بعد اجتماع لجنة السياسات بالحزب الوطنى المنحل، قرارًا بتجميد برنامج الخصخصة، وهو ما طرح وقتذاك أسئلة بلا إجابات حول العائد من البرنامج، ووسائل البيع والتقييم.
نتائج الخصخصة، وهي كلمة لا تلقي أي ارتياح بين أوساط المصريين، كانت انهيارا كاملا في القدرة الصناعية المصرية، وأطلالا شاهدة على عمليات تخريب متعمد في صروح ضخمة، كانت شاهدة على قوة واندفاع الفعل المصري في ستينيات القرن الماضي، من المراجل البخارية إلى الدلتا الصناعية "إيديال" والنشا والخميرة، كلها الآن شواهد مصانع، بعد أن كانت ماكيناتها لا تتوقف عن الهدير.
وبعد أن خرجت الدولة ولم تعد إلى النشاط الاقتصادي، وحررت السوق المحلية، وجردت التجارة الخارجية من القيود والاشتراطات، فإن المزيد من الشروط الدولية يُطلب، والمزيد من الانصياع متاح ومعروض، في مقابل شهادة "حسن سير وسلوك"، وانتظارًا لثمار لم ولن تسقط أبدًا، والضحية الدائمة هو المواطن.
الغريب أن النظرية المزعومة عارضها عدد من الاقتصاديين، وفضحها عدم التحقق في أي دولة على ظهر الكوكب، يبدو إيمان الحكوميين العرب بها لا يرقى إليه شك أو مجرد تفكير، ومع الجهل والتبعية التي ترزح تحتها نفوسهم، وحقيقة أن صعود الأغلبية من الحكام العرب إلى الكرسي إما عن طريق وراثة أو انقلابات عسكرية، فإن التبعية للغرب تفرض عليهم الالتزام بتحقيق متطلبات السيد الأميركي من إبقاء غطاء شرعيته ممدودًا لهم.
الاقتصادي الفرنسي الشهير توماس بيكيتي، في كتابه "رأسمالية القرن الحادي والعشرين"، الذي استغرق إنجازه جهداً بحثياً امتد عشر سنوات، وعرف نجاحًا ضخمًا وغير مسبوق لعمل اقتصادي، إذ بيعت من نسخه مليون ونصف المليون نسخة في عشرين بلدًا، بعد ترجمته إلى عدة لغات، ناقش وحلل مسألة زيادة ثروات أغنى أغنياء العالم تبعًا لزيادة معدلات النمو الاقتصادي، في الوقت الذي تزيد فيه الفجوة بينهم وبين الفقراء.
وقدم الكاتب الحل العملي لعدم تركز الثروة وانعدام العدالة في توزيعها، بفرض الضرائب التصاعدية، وفرض ضرائب عالمية على الثروة، لمنع التهرب الضريبي وإيقاف آلية عمل الملاذات الضريبية الآمنة في جزر المحيط، وهاجم الترويج الغربي بأن رأسمالية السوق الحرة تنشر الرفاهية والعدالة والثروة، وأنها حصن للحريات الشخصية والعامة.
ويؤكد "بيكيتي" أن السوق الحرة في غياب أي آلية للتدخل من قبل الدولة لإعادة توزيع ثمار النمو تنتج أولجاركية "أقلية مسيطرة على السلطة والمال"، مستندا إلى كومة من البيانات تكشف عن الفارق بين الدخل والثروة، ويصل إلى نتيجة مفادها إن التراكم القياسي في ثروة أغنى الأغنياء يرجع إلى حقيقة بسيطة مفادها أن معدل العائد على رأس المال يفوق معدل نمو الدخل.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024