آراء وتحليلات
الفجور البريطاني: بكاء على النازحين بلبنان.. وتكديس المهاجرين بلندن ببوارج حربية مهترئة
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
قد يكون مفهوما لنا، ان تشهد الدول الكبرى في أوروبا مثلا او أمريكا الشمالية بما في الولايات المتحدة، تدفقا هائلا للمهاجرين نحو أراضيها حتى ولو بأعداد كبيرة، انطلاقا من قدرتها على استيعاب هذه الموجات البشرية، فضلا عن مواردها وثرواتها، والأهم الأزمات الديموغرافية التي تعاني منها بعض البلدان الاوروبية، وتتطلب بالتالي عمالة هي بأمس الحاجة إليها. هذا بالاضافة الى مسؤولية هذه الدول العظمى عن غالبية الازمات في العالم بسبب استعمارها للكثير من الامم والشعوب وحروبها وغزواتها وعقوباتها المفروضة على العشرات من الدول المعدمة في مختلف القارات.
غير ان ما هو عصيٌّ على الاستعياب والادراك، هو الفجور والبلطجة الدبلوماسية التي تمارسها الدول الغربية (لا سيما الأوروبية منها وتحديدا بريطانيا) على لبنان، من خلال حملات الترهيب لدبلوماسييها ـــ سواء المعتدمين في بيروت او الوافدين اليها ـــ لإبقاء النازحين السوريين على اراضيه، وتهديدهم بقطع المساعدات الدولية عن مؤسساته الامنية والرسيمة، في حال اقدم على ترحيل اي نازح، رغم معرفتهم بمعاناة لبنان وازماته المعيشية الخانقة.
بالمقابل، فإن وقاحة هؤلاء الدبلوماسيين بلغت حدا غير مسبوق من الانفصام، واعتماد سياسة الكيل بمكيالين تجاه قضية اللاجئين. ففي الوقت الذي يذرف سفير مملكة التاج في لبنان "هايمش كاول" دموع التماسيح على اوضاع النازحين في وطن الأرز، ويتلو على أسماع اللبنانيين ما يشبه دروسا في الوعظ والإرشاد بكيفية التعاطي مع النازحين، تبيح بلاده لنفسها اصدار قوانين جائرة للتخلص من اللاجئين، واتخاذ كافة الإجراءات التي تراها مناسبة لمصالحها، حتى وان كانت غير أخلاقية ومتعارضة مع أبسط القواعد الانسانية وتنتهك حقوق الانسان (وفقا للمعايير الحقوقية الاوروبية والإنكليزية) بهدف معالجة اللاجئين هناك.
وتبعا لذلك، لم تتردّد الحكومة البريطانية بتنفيذ افكار جهنمية لحل أزمة اللاجئين لديها، تارة قرار عبر ترحيلهم الى بلدان افريقية، وطورا من خلال القيام بتكديسهم في أماكن أشبه بأقبية حديدية وفي ظروف مأساوية.
والمريب في الأمر ان الكثير من النازحين السوريين المقيمين حاليا في لبنان، يرفضون العودة الى بلدهم، رغم انتهاء الحرب، وعودة الأمن والأمان الى الكثير من المناطق السورية، وهذا لا يمكن وضعه في خانة البراءة، بل يخدم اجندات خارجية خبيثة تهدف الى قلب الموازين الديموغرافية في لبنان بما يتلاءم ويخدم المصالح الخارجية اولا واخيرا.
ولاننسى ايضا في هذا السياق، تواطئ الكثير من رجالات السلطة والحكم اللبنانيين، مع الدول الغربية والرضوخ لها في مسألة ابقاء النازحين السوريين في لبنان والاستفادة منهم، فضلا عن انتفاع جيوش المجتمع المدني ـــ الممول من الجميعات او الاحزاب او السفارات الاوروبية والامريكية تحديدا ــ من ازمة النزوح التي اضحت معضلة كبير تفوق قدرة اللبنانيين.
كيف تتعامل الحكومة البريطانية مع المهاجرين؟
عمليا، يواجه المهاجرون الذين ينجحون في النجاة من الرحلة عبر البحار والمحيطات، المحفوفة بالمخاطر، استقبالا فاترا وعدائيا في كثير من الأحيان لا سيما في أوروبا وبريطانيا. ولطالما ضربت إجراءات الهجرة التقييدية على وتر حساس بين الشعبويين هناك، كما هي الحال في الولايات المتحدة. ومع ارتفاع أعداد المهاجرين، اتخذت خطوات مماثلة في لندن وبروكسل وغيرها من العواصم الأوروبية لمنع دخولهم غير المصرح به وتسريع معدل معالجتهم وطردهم.
اللافت ان بعض هذه الجهود، التي يغذيها الساسة الساعون إلى تحقيق مكاسب انتخابية، تكون غير مبررة أو قاسية. فحزب المحافظين الذي يتزعمه رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، والذي يتولى السلطة منذ عام 2010، يواجه صعوبات كبيرة في الانتخابات العامة التي من المرجح أن تجرى العام المقبل.
ولهذه الغاية تضمنت أجندته للحكم، وعدا بخفض عدد المهاجرين الذين يتوجهون على متن قوارب صغيرة، عبر بحر المانش الى بريطانيا. حيث وصل أكثر من 100 ألف شخص إلى الشواطئ البريطانية باستخدام هذا الطريق على مدى السنوات الخمس الماضية.
وفي سعيه لتحقيق هدفه، دفع السيد سوناك بسياسات متطرفة من المحتمل أن تعرض المهاجرين للخطر، بالرغم من ان المحاكم البريطانية تصدت له في إحدى الحالات، ولاعتبارات الصحة العامة في حالة أخرى، لكنه أصر على ذلك متسلحا بقانون الهجرة الجديد.
ما سياسة الهجرة الجديدة في بريطانيا؟
في الواقع، فإن آمال المهاجرين ايا كانت جنسيتهم بحياة أقل خطورة اصطدمت بتعهد رئيس الوزراء ريشي سوناك بـ "إيقاف القوارب" وسياسة اللجوء الجديدة التي تطمح إلى شيء مثل الاحتجاز الإلزامي في أستراليا، او نقلهم إلى الخارج.
من هنا، يحظر قانون الهجرة غير الشرعية في المملكة المتحدة لعام 2023 ــ الذي أقره البرلمان وحصل على الموافقة الملكية الشهر الماضي ــ فعليًا على أولئك الذين يدخلون بريطانيا عبر وسائل غير رسمية التقدم بطلب اللجوء هنا. ولذلك اصبح واجبًا قانونيًا على المسؤولين احتجاز الأشخاص وترحيلهم إلى موطنهم الأصلي، إذا كان ذلك ممكنًا، أو إلى "دولة ثالثة آمنة"، بما في ذلك رواندا، حيث يمكن معالجة طلبات اللجوء الخاصة بهم. وبمجرد نقلهم، سيتم منع طالبي اللجوء من دخول بريطانيا مرة أخرى.
وتعقيبا على ذلك قال سوناك (للمفارقة هو من أصل هندي) في مؤتمر صحفي: "هذا البلد و حكومتكم هما من يجب أن يقرروا من يأتي إلى هنا، وليس العصابات الإجرامية".
ما قصة سوناك مع تكديس المهاجرين ببارجة حربية؟
في الواقع، وتطبيقا سياسة الهجرة الجديدة، تبنى السيد سوناك فكرة وضع وتكديس المئات من طالبي اللجوء، على بارجة عائمة راسية على الساحل الجنوبي لإنجلترا. وبموجب خطة الحكومة، من المقرر أن تستوعب السفينة وهي تدعى" بيبي ستوكهولم" ما يصل إلى 500 مهاجر، أي أكثر من ضعف عدد غرفها.
وعليه، جرى نقل أول طالبي اللجوء على متن السفينة في وقت سابق من آب/ أغسطس الفائت، وقد بررت الحكومة هذا الإجراء ظاهريًا بأنه لتجنب ارتفاع أسعار الفنادق.
الاسواء ان هذه الخطوة جاءت بالرغم من مخاوف نقابة رجال الإطفاء الرئيسية في بريطانيا، التي حذرت من أن البارجة هي "فخ موت محتمل".
لكن هذا بعد أربعة أيام فقط من بدء وصول المهاجرين الى البارجة، تم اجلائهم عندما تم اكتشاف البكتيريا المسببة لمرض الفيالقة (التهاب رئوي وضيق تنفس) في نظام المياه في "بيبي ستوكهولم".
الأكثر أهمية هنا، تمسك الحكومة البريطانية باجراءتها، وتعهد المسؤولين البريطانيين فيها بالمضي قدما بمخططهم بنقل اللاجئين الى البارجة، بمجرد حل المشكلة الصحية التي وصفوها بأنها عابرة.
ماذا عن قرار الترحيل الى رواندا؟
لم تتوقف افكار سوناك على قضية البارجة، فهذه المرة لجأ الى خيار الترحيل القانوني، فقد توصلت حكومته إلى اتفاق لإرسال المهاجرين إلى رواندا، حيث، إذا مُنحوا حق اللجوء هناك، فلن يكونوا مؤهلين لتقديم طلب في بريطانيا.
وحتى أوائل الشهر آب/ أغسطس الماضي، دفعت لندن لرواندا ما يقرب من 180 مليون دولار لتمويل التنمية. ولتبرير نهجها، أصرت حكومة السيد سوناك على أن اللاجئين سيكونون آمنين في رواندا، مما أدى إلى تشويه سجل حقوق الإنسان السيئ في الدولة الإفريقية تلك.
ومع ان محكمة بريطانية منعت الصفقة، وحكمت بأن رواندا لا يمكن اعتبارها "دولة ثالثة آمنة" لطالبي اللجوء، غير ان المثير هو تصميم سوناك على الخطوة، واستئناف حكومته هذا القرار أمام المحكمة العليا في بريطانيا.
بالمقابل، قوبل الإجراء البريطاني (الذي تم التراجع عنه مؤقتا بانتظار صدور قرار المحكمة العليا) باستنكار الأمم المتحدة التي عبّرت عن الانزعاج إلى الحد الذي دفعها إلى إصدار بيان غير عادي، قالت فيه إن بريطانيا تتعارض مع القانون الدولي وترسي "سابقة مثيرة للقلق فيما يتصل بتفكيك الالتزامات المتعلقة باللجوء والتي قد تميل دول أخرى، بما في ذلك أوروبا، إلى اتباعها".
في المحصلة، بريطانيا تبيح لنفسها، ترحيل اللاجئين وحتى وإيوائهم بصناديق حديدية، ولا يكتفي دبلوماسيوها بالتواطئ مع بعض مسؤولي السلطة اللبنانية ــ وهؤلاء فاقدون بكل معنى الكلمة لادنى معايير السيادة والكرامة الوطنية ــــ لمنع عودة النازحين السوريين في لبنان الى ديارهم، ومحاولة توطنيهم عبر أساليب ملتوية كما هو حال قضية دمج الطلاب اللبنانيين مع السوريين في المدارس الرسمية.
وأسواء ما في الامر ان عددا كبيرا من مسؤولي الاحزاب والنواب الذين يدورون في الفلك الأميركي، وشخصيات إعلامية، ومعهم المئات مما يسمى جمعيات المجتمع المدني، مشاركون وبقوة في مؤامرة منع عودة النازحين الى سوريا، وذلك وبهدف المحافظة على امتيازاتهم ومكاسبهم ورفاههم المادي، حتى ولو جاء ذلك على حساب المواطن ومآسي وآلام الشعب اللبناني. والمخزي ان هؤلاء المتآمرون، يتصدون ايضا لأية خطة للعودة الامنة، وكل ذلك بدفع وتحريض من الدبلوماسيين الغربيين، ومن ضمنهم السفير البريطاني، وبلاده التي لم تجلب للبنان والمنطقة يوما سوى الخراب والدمار والنكبات، وفلسطين خير شاهد على ذلك.
الهجرةالهجرة غير الشرعيةالنزوح
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024