معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

ثورة أفريقيا من أجل التغيير محكومة بحركة التاريخ‎
05/09/2023

ثورة أفريقيا من أجل التغيير محكومة بحركة التاريخ‎

يونس عودة

ما يحدث في القارة السمراء من تحركات ليس مجرد انتفاضات ضد أنظمة الحكم بعنوان "انقلابات" عسكرية على أنظمة غير عادلة في توزيع الثروة الوطنية، وإنما هي في الجوهر حركات تحرر وطني ضد الاستعمار بأشكاله الجديد عبر الاقتصاد الذي يسيطر على السياسة والثقافة حيث يجري مسح الذاكرة وإحلال مفاهيم تعاكس الإنسانية بكل أوجهها.

إن ما يجري في المخاض الافريقي يدل على حركة وعي شعبية رفضًا للقهر المستمر بأدوات محلية أورثها الاستعمار سلطة شكلية تحافظ على أمن ناهبي البلاد من الشركات الأجنبية المولودة من أبوين مستعمرين، وإلا لما كانت الناس خرجت إلى الشوارع تؤيد جيش "الانقلابات" العسكرية بعدما كان الجيش أداة قمعية بأيدي السلطات السياسية الموالية للدول المكابرة استعماريًا والتي هي ركيزة مهمة في حلف "الناتو" سيئ الصيت والسمعة.
   
إن ما شهدته الغابون والنيجر ليس بعيدًا عما جرى في مالي وبوركينا فاسو وتشاد ومنطقة الساحل والصحراء عمومًا، وهي الهادفة إلى التغيير أو الانتقال إلى مرحلة لا تشبه سابقتها جراء الفشل المريع للوصفات الغربية في التنمية والاستقلال الكاذب. وقد ساهمت عوامل كثيرة في ذلك، وأبرزها الفشل في إحداث تغيير حقيقي خصوصًا في قاعدة البيئة الاقتصادية والسياسية، إذ إن الشعوب ما زالت تعاني اقتصاديًا رغم الثراء الباطني لتلك الدول ومعظمها يرتبط بدائرة المصالح الفرنسية، وبالتالي يزداد الشعور بعدم  الاستقلال الاقتصادي عن "المستعمر السياسي السابق".

اذًا هي تغيرات ترتبط بوجود صحوة شعبية تجاه الوجود الفرنسي بكافة أشكاله، وأيضًا وجود لاعبين آخرين في القارة يضغطون بشدة على إزاحة النفوذ الغربي ومنه الفرنسي، فالخط الممتد من أفريقيا الوسطى وتشاد ومالي، وبوركينا فاسو والسنغال، والآن الغابون والنيجر لم يعد يرغب في الوجود الفرنسي، كذلك الأجيال الشابة الجديدة في تلك الدول لم تعد ترغب بهذا الوجود وهي أجيال متعلمة وقادرة على قراءة الواقع الدولي ونقد الوجود الفرنسي في دولها والتي رأت التنمية والتطور الفرنسي، ولكنها لم تره في دولها وبما أشعرها بوجود استغلال لثروات تلك الدول من جانب فرنسا.

ليست تلك الصحوة اذا جاز التعبير معزولة في الجوهر عما يجري في العالم من تموضعات جديدة، إذ إن الذين يقودون التغيرات يعرفون أنهم سيجدون داعمًا لهم من قوى أخرى، وقارة إفريقيا منذ فترة تحدث بها تغيرات وهي صدى لتغيرات في النظام الدولي وترتبط بها، والرغبة في وجود نظام دولي آخر، وقد ظهرت مؤشرات مهمة خلال تظاهرات التأييد لتحركات الجيش أكان في النيجر أو الغابون تدل على ذلك، وإذا جرى التدقيق فإن التحركات تزامنت مع انعقاد اجتماعات دول بريكس التي انضم إليها أعضاء جدد، ويطمح الكثيرون إلى الانضمام بعدما أرهقت دولهم من الوصفات الغربية وشركاتها المهيمنة، وهذا الأمر سيفتح الباب واسعًا أمام روسيا والصين وأعضاء البريكس الجدد كإيران، الذين يتطلعون لتمويل أفريقيا وتبادل المصالح الاستراتيجية من دون لوثة الاستعمار وتدخلاته بأصغر الشؤون حتى اكبرها.

بلا شك أن الغربيين باتوا يتوجسون من المستوى البعيد خصوصًا مع تشكل قوى وازنة عالميًا، وهم ينظرون بعين الخطر الى مصالحهم التي غلفوها بالرياء والوعود، وقد عكست وجهات نظر غربية تلك المخاوف التي يكمن بعضها في أن الجزائر اتفقت مع الصين على منحها ميناء على البحر المتوسط، كما ساهمت جيبوتي بميناء على القرن الإفريقي، وقد تمنح الغابون الصين ميناء على المحيط الأطلسي. وهذا قد يتيح الفرصة لتلك الدول المشاطئة لتتصدر المشهد السياسي. فماذا سيستطيع الغرب أن يقول أو أن يفعل حينها؟

بلا شك أن فرنسا أكثر الدول المصدومة مما يجري في افريقيا باعتبارها "الشريك التجاري والمستثمر الرئيسي في البلاد" بسبب غنى البلاد بالموارد الطبيعية، إذ إن الغابون هي خامس أغنى دولة في إفريقيا، وأكبر منتج للمنغنيز في العالم وبدأت معالجة اليورانيوم منذ عام 1961 ويتم استخراج الماس والذهب في البلاد، وهناك احتياطيات من خام الحديد عالي الجودة (60 – 65%) من محتوى الحديد في الشمال الشرقي.

ويمثل النفط أكثر من 70% من صادرات البلاد وتشكل إيراداته غالبية الميزانيات الوطنية. وأكثر من نصف الإنتاج يأتي من الحقول البحرية، أما الغاز الطبيعي من هذه الحقول فيستخدم لتوليد الكهرباء. ويذهب جزء كبير من النفط الخام إلى فرنسا والولايات المتحدة، ويضاف الى ذلك ثروات زراعية وحيوانية.

إن الغرب ولا سيما فرنسا يحصد اليوم نتائج زرعه وهو سيضطر لخوض معارك جديدة في ظل ترهله الأخلاقي والاقتصادي من أجل المحافظة على ما أمكن من استثمارات شركاته، لكن ذلك دونه عوائق جمة اذا استمر في أساليب تفكيره، فالعالم يتقدم بخطى ثابتة وواثقة نحو التغيير، وليس أدل على ذلك من الاتفاق الايراني السعودي المبشر والذي يسعى الغربيون بكل ثقلهم إلى عرقلته من دون أن يدركوا أن حركة التاريخ إلى الأمام.

الثورة

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات