معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

قراءة في تحولات الموقف السعودي وخفايا الدور الأمريكي
12/08/2023

قراءة في تحولات الموقف السعودي وخفايا الدور الأمريكي

حيّان نيّوف

شهد النصف الأول من العام الحالي تطورات مهمة على صعيد التحولات الإستراتيجية في السياسات السعودية وتوجهاتها الإقليمية والدولية، جعلت الكثير من المتابعين والمهتمين بالشأن السياسي يخوضون في دراستها والوقوف عندها.

يمكن لدى الحديث عن تلك التحولات التوقف عند ثلاث محطات رئيسية وهي القمة السعودية - الصينية في جدة، واتفاق بكين بين طهران والرياض، والقمة العربية في جدة بحضور سورية.

تتأتى الأهمية السياسية والجيوسياسية لتلك التحولات من كونها جاءت متعاكسة مع التوجهات التقليدية للسياسات السعودية المصنفة تاريخيًا كتحالفات وشراكات استراتيجية مع الولايات المتحدة خصوصًا والغرب عمومًا، ولطالما كانت صيغة تلك التحالفات قائمة على مبدأ تأمين الحماية من قبل الولايات المتحدة مقابل النفط ومقابل ربطه بالدولار والإندماج مع السياسات الغربية إقليميًا وعالميًا.

غير أن المحطات الثلاثة أظهرت توجهًا سعوديًا معاكسًا، فيما بدا وكأنه ردّ سعودي على إخلال أميركي بمبدأ تأمين الحماية خاصة بعد حرب اليمن وسحب الولايات المتحدة للعديد من قواتها وأنظمة الدفاع الجوي الخاصة بها من السعودية وكذلك سحبها لأسراب من الطيران كانت موجودة في السعودية والإقليم تحت حجة حماية حليفها السعودي، ثم استعاضت الولايات المتحدة عن تلك الحماية بالدعوة إلى ايقاف الحرب على اليمن واعتبارها خطيئة استراتيجية، وكل ذلك في ظلّ التوجه الأميركي لمواجهة الصين وروسيا في مناطق أخرى من العالم وعلى الأخص في اوروبا وجنوب شرق آسيا والمحيط الهادي حيث شكل التمدد الروسي الصيني في تلك المناطق مصدر قلق كبير لواشنطن لا يمكنها السكوت عنه فكان لا بد لها من استراتيجية جديدة للمواجهة وإعادة ترتيب الأولويات، وهو ما كان واضحًا في الاستراتيجية التي أعلنها بايدن والتي شملت مواجهة روسيا والصين في كل من أوكرانيا وتايوان والمحيط الهادئ والدعوة إلى وقف حرب اليمن.

في ضوء كلّ ذلك وجد قادة السعودية أنفسهم في مكان وقد جرى التخلي عن بلادهم وأهميتها من قبل الولايات المتحدة، أو عن موقعهم في سلم ترتيب الأولويات الامريكية، فكان لا بد لهم من البحث عن تشابكات جديدة مع قوى عالمية عظمى أو صاعدة، وكان لا بد من انتهاج استراتيجيات جديدة، خاصة أن قوى عظمى من خصوم الولايات المتحدة كانت تترقب تلك اللحظة التاريخية لملء الفراغ الأمريكي في الإقليم فكيف إن كان ذلك مع دولة مثل السعودية بما تمثله من ثقل إقليمي وعربي واسلامي واقتصادي ومالي وحتى دولي.

لم يرق للولايات المتحدة هذه التحولات والتوجهات الجديدة للقيادة السعودية، بل يمكن القول إن واشنطن شعرت بشيء من الصدمة والقلق ليس لأجل نفوذها في الإقليم فقط، بل لما يمكن أن ينتج عن التشبيكات الجيوسياسية الجديدة للرياض خاصة أنها جاءت في لحظة تاريخية لا يمكن معها المغامرة باللجوء لإحداث تغييرات أو انقلابات في الداخل السعودي لصالح واشنطن بعد أن تمكن بن سلمان من إحكام قبضته على السلطة وإزاحة معارضيه هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أية مغامرة في الداخل السعودي قد تتسبب بانفلات الأمور من عقالها في مرحلة تتشتت فيها قوة الولايات المتحدة على جبهات عدة في مواجهة روسيا والصين وإيران.

إذاً كان لا بد لواشنطن من إعادة صياغة علاقتها مع الرياض بما يضمن العلاقة التحالفية والشراكة الإستراتيجية بين الجانبين ويمنع انفلات السعودية من الهيمنة الأمريكية لصالح الخصوم، وفي سبيل ذلك لجأت الولايات المتحدة إلى اعتماد تكتيكات جديدة لإقناع الرياض، تمثلت بزيارات مكثفة قام بها مسؤولون أميركيون من الأمن القومي والخارجية والبنتاغون إلى المملكة، وافتعال أزمات جديدة قريبة من حدود السعودية تمهيدًا لإشراكها بها واحتوائها من خلالها وأقصد تحديدًا الأزمة السودانية.

فيما يخص التكتيك الأمريكي المتعلق بالسودان، فإنه يمكن القول إن حرب السودان التي اندلعت بشكل مفاجئ قبل أيام من موعد التوقيع على اتفاقية الحل السياسي التي كانت مقررة بين القوى المختلفة في هذا البلد شكلت فرصة أمريكية لإعادة احتواء السعودية، حيث كان لافتاً قيام الولايات المتحدة بحصر قيادة الملف السوداني بالسعودية دون سواها من حلفاء الولايات المتحدة كمصر وغيرها، وهو ما شكل مناسبة لعودة التنسيق عالي المستوى بين الجانبين الامريكي والسعودي.

وفيما يخص التكتيك الأمريكي المتعلق بتكثيف الزيارات السياسية والأمنية والعسكرية والتي تتوجت بزيارة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن للسعودية في حزيران الفائت بعد زيارات متكررة لمستشار الأمن القومي جاك سوليفان، فقد تبع ذلك كله ضم السعودية لرئاسة مجموعة الإرتكاز لمحاربة داعش في أفريقيا وإرسال الولايات المتحدة مؤخرًا لآلاف الجنود الى الخليج بالإضافة إلى إرسال المزيد من القطع البحرية في خطوات تعكس التزامًا أميركيًا بأمن الرياض وحمايتها.

يمكن أيضًا ملاحظة تكتيكين أميركيين آخرين لإعادة التشبيك مع السعودية، الأول يتمثل بالسعي الأميركي للتطبيع السعودي الإسرائيلي تحت مظلة مناقشة شروط الرياض بهذا الخصوص وخاصة ما يتعلق منها بالإلتزام بحماية الرياض والإلتزام بعقود التسليح ومناقشة الملف النووي السعودي، والتكتيك الآخر تمثل بقيام واشنطن باصطناع توتر في مياه الخليج مع البحرية الإيرانية لترهيب الرياض وعرقلة أي مشروع اقليمي ايراني خليجي للأمن المشترك في مياه الخليج.

يمكن القول إن التكتيك الأميركي نجح إلى حدٍ بعيد في إعادة استقطاب السعودية مجددًا وخاصة منذ زيارة بلينكن للسعودية والتي شكلت نقطة التحول المطلوبة أميركياً لإعادة صياغة العلاقات التحالفية بين الرياض وواشنطن. بعد أن اهتزت كما ذكرنا في مناسبات ثلاث (القمة الصينية السعودية، إعلان بكين بين طهران والرياض، القمة العربية بمشاركة سورية)، ولعل من أهم المؤشرات على نجاح واشنطن في ذلك كانت قمة جدة الخاصة بالسلام في اوكرانيا على مستوى مستشاري الأمن القومي، بالإضافة إلى تباطؤ الإندفاعة السعودية نحو طهران ودمشق.

أخيرا؛ فإنه من المهم الإشارة إلى ما صدر عن البنتاغون مؤخرًا لفهم كل ما ذكرناه بهذا الخصوص، تصريحات البنتاغون كانت واضحة حيث قال: "إن تعميق العلاقات الصينية مع شركائنا الاستراتيجيين بالشرق الأوسط على نطاق واسع هو مصدر قلق لنا، وإن لوجود الأميركي في الشرق الأوسط مرتبط بالإستراتيجية الدفاعية التي تعتمدها واشنطن".

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات