آراء وتحليلات
بدأ زمن العد العكسي لهيمنة الدولار
صوفيا ـ جورج حداد
في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد توقيع اتفاقية "بريتون وودز" التي اعفت الدولار الورقي الاميركي من التغطية الذهبية الالزامية لاي عملة وطنية، واعتبار هذا الدولار الورقي هو العملة الدولية الرئيسية، وبعد انشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير، تحت السيطرة الاميركية، ـ بعد هذه الاجراءات الراديكالية على الصعيد المالي والاقتصادي العالمي، كانت غالبية دول وشعوب العالم، بما في ذلك غالبية قيادات حركات التحرير في البلدان المستعمرة السابقة، تأمل في ان الولايات المتحدة الاميركية (التي لم تصل الحرب الى اراضيها) سوف تضطلع بدور الراعي الصالح للاقتصاد العالمي المنهار، وتساعد مختلف البلدان والشعوب على اعادة الاعمار والنهوض والازدهار، وبما ينسجم مع المصالح الاقتصادية والامن القومي لاميركا ذاتها.
ولكن الولايات المتحدة الاميركية عملت العكس تماما، واستغلت المركز الممتاز الدولي الذي حصلت عليه، كي تتحول الى "بلطجي" العالم بأسره، بلطجي يستغل عملية اعادة الاعمار كي ينهب الشعوب والبلدان والدول الضعيفة، و"يشارك" الدول المتقدمة في نجاحاتها ويعمل على نهبها هي ايضا ما استطاع الى ذلك سبيلا. وصارت الاحتكارات الرأسمالية الكبرى، الاميركية ـ اليهودية، تتحكم ليس فقط بالمفاصل والشرايين الاساسية للدورة الاقتصادية والمالية العالمية، بل وتتدخل في اصغر الشؤون الاقتصادية والمالية لاي دولة كانت لتجبرها على السير ضمن المخططات والبرامج الامبريالية الاميركية ـ اليهودية، والا تعرضت للافلاسات والانهيارات الاقتصادية والاضطرابات والقلاقل والانقلابات والحروب. ومنذ عهد هاري ترومان الى عهد دونالد ترامب فإن جميع الحكومات الاميركية، الدمقراطية والجمهورية، استخدمت سياسة "المساعدات" والقروض الدولارية، المباشرة او من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لاجل فرض وتشديد الهيمنة الدولارية على العالم. وباعتبار ان الدولار صار يعتبر بديلا للذهب، تحول الى "عملة احتياطية" رئيسية في البنوك المركزية لمختلف الدول، تستند اليها العملة الوطنية للبلد المعني. وانعكست القاعدة الذهبية لقياس العملة. وصار الذهب ذاته يقاس بالدولار، وليس الدولار يقاس بالذهب. وهذا ما جعل ليس فقط الدول المنتجة للذهب تحت رحمة الدولار، بل ان جميع دول العالم التي تمتلك احتياطا ذهبيا لتغطية عملتها الوطنية اصبحت تحت رحمة الدولار، الذي صار بامكانه (حسبما تقرر الطغمة المالية العليا الاميركية ـ اليهودية) رفع او خفض اسعار الذهب بالدولار، الامر الذي ينعكس على سعر صرف العملة الوطنية لكل بلد يمتلك احتياطا ذهبيا، وما يستتبع ذلك من غلاء وتضخم، او رفع سعر العملة الوطنية بشكل مصطنع وضرب التجارة الخارجية والانتاج الوطني لمختلف البلدان.
وباختصار ففي نصف القرن الماضي بعد الحرب العالمية الثانية، تحول الدولار الى كابوس للاقتصاد العالمي بأسره، واخذت شتى الدول تعمل جاهدة للتخلص من هذا الكابوس.
وحتى قبل ان تستفيق روسيا من صدمة انهيار الاتحاد السوفياتي، اصدر الاتحاد الاوروبي في 1999 عملة اليورو التي اصبحت العملة الدولية الثانية بعد الدولار. وتعمل "اللجنة الاوروبية" (شبه الحكومة للاتحاد الاوروبي) لزيادة دور اليورو في مدفوعات شراء النفط والغاز والخامات المعدنية لاوروبا. ومعلوم ان الاتحاد الاوروبي هو اكبر مشتر للنفط والغاز في العالم، وهو يشتري سنويا بـ 300 مليار يورو، و85% من المدفوعات تتم بالدولار. والوضع يشبه ذلك في مشتريات مختلف الخامات والاسواق المالية.
"ان القسم الاغلب من العقود بعيدة الاجل لاستيراد الطاقة هي باليورو. وهذا يدل على عدم استقرار الوضع، ولا يعبر عن الدور الذي يجب ان يضطلع به اليورو عالميا"، هذا ما يقوله ميغيل ارياس كانيتي، مفوض الاتحاد الاوروبي لشؤون الطاقة. وقد بدأت "اللجنة الاوروبية" تعمل للتخلي عن الدولار، ووجهت نداءات لمختلف الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي كي تفرض استخدام اليورو في تجارة الطاقة، كما في الاسواق الداخلية للدول الاوروبية. ونصحت المشاركين في سوق الغاز بالاتجاه فورا لعقد الاتفاقات باليورو كما كتبت Deutsche Welle. وبدأت "اللجنة الاوروبية" تجري استقصاءات في اسواق المواد الغذائية والخامات المعدنية والطاقة لمختلف البلدان الاوروبية، لمعرفة ما هي العراقيل التي تعيق اضطلاع اليورو بدور اكبر في الاسواق.
هل تتطابق مصالح الاتحاد الاوروبي وروسيا في الموقف من الدولار؟
في ايلول 2018 بدأ رئيس اللجنة الاوروبية يتحدث عن ضرورة زيادة دور اليورو.
وقبل ذلك بقليل كانت المراجع الروسية قد بدأت تتحدث عن الشيء ذاته.
وحسب تصريحات الرئيس بوتين ورئيس الوزراء ميدفيدييف فإن روسيا ذات مصلحة في الانتقال من الدولار الى اليورو. وتقوم روسيا بمباحثات بهذا الشأن مع تركيا. اما مع الصين فقد عقدت العديد من الاتفاقات التي تبلغ عشرات ومئات المليارات بغير الدولار.
والاتحاد الاوروبي وروسيا يختلفان في العديد من المسائل ولكنهما يتفقان على ضرورة استخدام اليورو في صفقات الغاز والصفقات التجارية الاخرى، ولا سيما في الصفقات قصيرة الاجل.
هل ستتخلى روسيا عن الدولار؟
تتحدث اوساط الحكومة الروسية عن خطة تنص على نزع الدولرة عن الاقتصاد الروسي بمبلغ مقداره 1،6 تريليون دولار، ودعوة المؤسسات الصناعية الكبرى للتخلي عن اعتماد العملة الاميركية.
وقد حظي برنامج رئيس بنك التجارة الخارجية الروسي اندريه كوستين بتحويل الحسابات البنكية بالدولار الى عملات اخرى، بتأييد وزارة المالية، والبنك المركزي الروسي، وبتأييد الرئيس بوتين شخصيا كما يؤكد كوستين. ويذكر ان روسيا هي اكبر مصدر برصيد ايجابي يبلغ 115 مليار دولار (2017).
وكتبت Washington post ان الحسابات البنكية بالدولار انخفضت الى نسبة 68% في السنة الماضية.
وقد صرح الناطق بلسان الكرملين دميتريي بسكوف "ان عددا متزايدا من البلدان ليس في الشرق فقط، بل وفي اوروبا ايضا، بدأ يفكر كيف يقلل الاعتماد على الدولار الاميركي. وقد اخذوا يدركون:
أ ـ ان هذا ممكن.
ب ـ وهذا ما ينبغي عمله.
ج ـ ويمكن انقاذ البلد المعني اذا فعل ذلك باسرع ما يمكن".
لقد سبق لاميركا ان نهبت العالم بإغراقه بالدولارات التي لا تساوي اكثر من ثمن الحبر والورق اللذين طبعت بهما. والان فإن الدولارات الورقية لاميركا بدأت ترتد عليها. وتعمل ادارة ترامب لاشعال الازمات ومشاريع الحروب في الشرق الاوسط واوكرانيا والبحر الاسود وجنوب شرق اسيا وفنزويلا، من أجل ابعاد مخاطر العواقب المالية (الدولارية) التي تنتظر اميركا. ولكن الاعصار الدولاري يتزوبع بكثافة، ولا شيء سيمنعه من اكتساح الاسواق المالية والحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لاميركا. والمسألة مسألة وقت لا اكثر.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024