آراء وتحليلات
الجزائر بين رئيس جديد و"ربيع عربي ثان"!
سركيس أبوزيد
انطلقت شرارة ما عُرف وسُمّي "الربيع العربي" من تونس عام 2010 . ومع أن الجزائر ھي جارة تونس، فإنھا ظلت في منأى عن ھذا "الربيع" وظلت أبوابھا موصدة أمام أي ثورة شعبية أو "خروقات إسلامية".
سبق واختبرت الجزائر مثل ھذه الحالة باكرا عندما واجھت في حقبة التسعينات اختبارا صعبا وخطيرا. في تلك الحقبة حققت "جبھة الإنقاذ الإسلامية" فوزا واضحا في الانتخابات جرى إجھاضه سريعا ولم يقبل به الجيش الذي شن حملة أمنية وعسكرية ضد مسؤولي ومناصري ھذه الجبھة الإسلامية، وأدت ھذه الاضطرابات و"شبه الحرب الأھلية" الى مقتل نحو 200 ألف من الطرفين على امتداد سنوات، الى أن وصل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الى رئاسة الجمھورية.
ظل بوتفليقة رئيسا قويا بفعل ولاء الجيش له ومحبة وتقدير الجزائريين لدوره خلال حرب التحرير، وبعدھا في تولي دور ھام من خلال موقعه كوزير للخارجية إبان حكم الرئيس ھواري بومدين، وحتى عندما صار بوتفليقة مقعدا في آخر ولاية رئاسية له وتراجع وضعه الصحي تقبّل الجزائريون ھذا الواقع. ولكن عندما أظھر بوتفليقة إصرارا على البقاء لولاية رئاسية خامسة متمسكا بكرسيه "المتحرك"، لم تقبل شريحة واسعة من الجزائريين ھذا الأمر لأنھم يعتبرون أن فريق الرئيس المتحكم بالسلطة والمتنعّم بخيراتھا يريد بوتفليقة واجھة وتغطية شرعية وسياسية له، فيما الرئيس لم يعد ممسكا بزمام الأمور والقيادة وبات منفصلا عن الواقع، ووضعه الصحي لم يعد يسمح له بتولي مقاليد الحكم وإدارة الدولة، ما أدى الى تراجع عام في الوضع الاقتصادي للجزائر وفي حضورھا الخارجي ودورھا الإقليمي. وعندما أعلن بوتفليقة قراره بالترشح لولاية خامسة كان ھذا القرار شرارة الحركة الشعبية التي تحركت ضده عبر مظاهرات عمّت مختلف ولايات الجزائر وتوحدت فيھا أصوات الأحزاب المعارضة وشريحة شعبية واسعة تطالب بتغيير نظام الحكم.
التطورات الاخيرة، وشدة التظاھرات والاحتجاجات الشعبية الزمت الرئيس بوتفليقة بخيار الاستقالة والمغادرة بعدما اقترن الضغط في الشارع مع تخلي الجيش عنه وتبنيه المطلب الشعبي بإزاحته، وبعد ان فشل في المبادرة التي اطلقها ولم تسعفه التنازلات على مراحل ودفعات: بداية اقترح أن يكون ترشحه مرفقا بتعھد بالدعوة بعد فوزه الى انتخابات رئاسية مبكرة، ثم تعھد بعدم الترشح مرة جديدة وألغى الانتخابات مقترحا فترة انتقالية تحت إشرافه، ثم بعدها أعلن اعتزامه الاستقالة بعد اتخاذ قرارات وترتيبات مھمة، وأخيرا اضطر الى الاستقالة بناء على إنذار الجيش الذي قطع الطريق على أي قرارات يمكن أن يتخذھا وتؤدي الى تغيير القيادة الحالية للجيش، أو الى تمكين مقربين منه من التحكم بالفترة الانتقالية. وھكذا انتھى الأمر الى فترة انتقالية من دون بوتفليقة وتحت إشراف وإدارة الجيش.
عربياً، استحوذت التطورات في الجزائر على اھتمام عربي ودولي نظرا لموقعھا الجيوسياسي وما تمثله من ثقل استراتيجي. فالجزائر ھي أكبر دولة في أفريقيا من حيث المساحة، ويربو عدد سكانھا على 40 مليون نسمة، وھي منتج رئيسي للنفط والغاز، وعضو في منظمة "أوبيك" ومورد رئيسي للغاز الى أوروبا.
في المقابل، تنظر دول الغرب الى الجزائر على أنھا شريك في مكافحة الإرھاب وتلعب دورا عسكريا مھما في منطقة شمال أفريقيا والساحل الأفريقي، وتقوم بجھود دبلوماسية في أزمات مالي وليبيا، كما تدعم الجزائر جبھة البوليساريو في الصحراء التي تخوض خلافا مزمنا مع المغرب، وبسبب ذلك فإن الحدود بين البلدين مغلقة منذ سنوات.
أما الموقف الفرنسي، فقد وجد ماكرون نفسه أمام مأزق تجاه الجزائر، إذ إنه في العمق قد يكون مؤيدا للمطالبين بالانتخاب الديمقراطي، ولكن في الوقت نفسه لديه مخاوف من نزوح جزائريين الى فرنسا وھذا يشجع القوى الشعبوية الفرنسية المضادة للھجرة. وما تتمسك به باريس ھو استقرار الجزائر لما له من تأثير على منطقة شمال أفريقيا وبلدان الساحل من جھة، وعلى حركة الھجرات عبر المتوسط من جھة أخرى، فضلا عن تأثيرھا على المواطنين من أصول جزائرية.
الربيع العربي حط رحاله في الجزائر مختتما جولة متعرجة دامية كانت انطلقت قبل تسع سنوات من تونس وقادته الى ليبيا ومصر وسوريا واليمن. يسجل للجزائريين أنھم قاموا بثورة بيضاء نظيفة، ويسجل للجزائر أنھا الدولة العربية الوحيدة التي شھدت انتقالا سلميا سياسيا للسلطة من دون إراقة دماء، ومن دون الجنوح الى أعمال عنف وفوضى، ولكن ھذا ما حصل حتى الآن بانتظار ما ستؤول إليه التطورات والأوضاع مع دخول الجزائر مرحلة إنتقالية غير واضحة المعالم بعد، ما يحول دون إصدار حكم نھائي.
فإذا كانت الجزائر استوعبت الموجة الأولى من الأزمة التي انتھت مع نھاية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة واستقالته وخروجه من المشھد وطي صفحة 20 عاماً من حكمه، فإن أسئلة كثيرة تبرز هنا، وأهمها: من سيخلف بوتفليقة؟! وكيف ستتطور المرحلة الانتقالية التي تنطلق في ظل رئيس انتقالي، أو في ظل ھيئة رئاسية مؤلفة من شخصيات وطنية مھمتھا تسيير البلاد والتحضير لانتخابات جديدة وإجراء إصلاحات وتغيير القوانين. فانسحاب بوتفليقة من السباق الرئاسي المُلغى ليس كافيا لإعلان نھاية الأزمة، والجزائر ما زالت في وضع صعب ومعقد وتقف عند مفترق طرق، وإذا كانت تجاوزت خطر العودة الى الثنائية القاتلة بين الجيش والإسلاميين، أو خطر الإنزلاق الى "السيناريو السوري"، فإنھا ما زالت في مرحلة الخطر، وهي مقبلة على مرحلة إنتقالية صعبة ومحفوفة بالمخاطر، ولا يمكن التكھن بمداھا وما إذا كانت توصل الى رئيس جديد وإعادة إنتاج السلطة، أم تذھب الى أكثر من ذلك باتجاه "تأسيس" نظام جديد ... او الدخول في "ربيع عربي ثانٍ" مجهول المصير.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024