آراء وتحليلات
"قفزات" سوق القطع.. لعبة الحاكم بأمر النقد
علي رسلان - باحث اقتصادي
من المعروف أن العامل الاقتصادي هو اللاعب الأساسي بسعر الصرف في السوق. وبموازاة الوضع الاقتصادي فإنّ للأحداث الأمنية والسياسية دورها المرحلي. دورٌ يؤدي إلى تقلبات و"قفزات" عشوائية وسريعة، لا يقرأها السوق بالسرعة اللازمة، فتثير تخبطاً على مختلف المستويات الاقتصادية والمالية والنقدية وحتى الاجتماعية. إلا أنّ مفاعيلها تزول مع انتهاء المسبّب إن كان أمنياً أو سياسياً. أما العامل الاقتصادي فيتميّز بالاستقرار النسبي والتقلبات المضبوطة التي يتفاعل معها السوق بأقل الأضرار وكذلك الأمر بالنسبة للسلطات النقدية والمالية.
المنطق الاقتصادي لا مكان له في لبنان، بلد الأزمات المفتعلة، حيث التلاعب بالليرة التي ترزح بين انهيار كارثي يليه ارتفاع بقدر يسير لفترة من الزمن، لتعاود السير في سكة الهبوط، وهذا ما دأبت عليه الأمور منذ نهاية العام 2019. سعر صرف الليرة منذ ذلك التاريخ يتأرجح هبوطاً وصعوداً. ووفق منطق "لكل مرحلة سعرها"، اتخذ سعر صرف الدولار بالنسبة لليرة منحىً تصاعديًا، فانخفض سعر العملة الوطنية بأكثر من 41 مرة، لأسباب اقتصادية تتعلّق بانخفاض حجم الاحتياطي من العملات الأجنبية إلى حدود 8 مليارات دولار. ولهذا الانخفاض أسباب بدءًا من الحصار الأميركي على لبنان، والحاجة إلى الدولار لاستيراد السلع الأساسية والكمالية على حد سواء، وما رافق ذلك من قرارات عشوائية بالدعم حيناً ورفعه أحياناً، وغياب المعالجات من قبل السلطات المالية المتمثلة بالحكومة ووزارة المالية، التي لم تزل قاصرة عن وضع خطة للنهوض الاقتصادي، والاكتفاء بالتفرج على الغوص أكثر في الأزمة واستفحالها.
أما الأسباب الرئيسية فهي سياسية. حاكم المصرف المركزي رياض سلامة القادر على التدخل للجم تدهور سعر الليرة وفق ما يطلبه منه قانون النقد والتسليف، وبالتحديد المادة 75 منه. نص المادة يقول حرفياً " يستعمل المصرف الوسائل التي يرى أن من شأنها تأمين ثبات القطع ومن أجل ذلك يمكنه خاصة أن يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشترياً أو بائعاً ذهباً أو عملات أجنبية مع مراعاة أحكام المادة 69، وتقيد عمليات المصرف على العملات الأجنبية في حساب خاص يسمى "صندوق تثبيت القطع"".
وخلال الأسابيع الأخيرة، أصدر حاكم المركزي بياناً لوقف السحب من السوق وتعديل سعر "صيرفة" إلى 38000 ليرة وفتح الباب للجميع للاستفادة منها، وأتبعه بضخ كميات جديدة من الليرة مقابل سحب جزء بسيط من الكتلة الهائلة في السوق، حيث وصلت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية في السوق 72 ألف مليار ليرة بداية العام وتجاوزت 85 ألف مليار ليرة خلال في الاسبوعين المنصرمين، وما إن انقضى أسبوع واحد حتى عاود المصرف المركزي عملية سحب الدولار من السوق السوداء، ومعه بعض البنوك. سحب لم يكن الهدف منه إلا زيادة انهيار الليرة، فشهد سعر الدولار ارتفاعاً وصل إلى حدود 64000 ليرة، مترافقاً مع أحداث قضائية-سياسية في مؤشر إلى ارتباط وثيق بين هذه الأحداث في سبيل إثارة الفوضى في البلد.
من الواضح أنّ كل ما يجري في سوق القطع، هو تحت نظر شخص واحد. الحاكم المتحكّم بكل مفاصل السلطة النقدية، والديكتاتور في مصرف لبنان. وبحسب مصادر من داخل المصرف فإن البيان الأخير لسلامة لم ينل موافقة المجلس المركزي لمصرف لبنان، وقد أصدره سلامة لوحده، وكذلك ما سبق من بيانات وتعاميم صدرت أيام العطلة الأسبوعية، وهي أيام لا ينعقد فيها المجلس المركزي، كما أنّ الحاكم لم يستجب لطلبات من قبل الحكومة للتدخل لضبط السوق منذ البداية، ولو فعل ذلك لكانت الكلفة أقل بكثير مما هي عليه اليوم على الصعد النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.
و
ومع كل ما سلف، ما يزال رياض سلامة قادراً على التدخل لضبط سوق القطع، وهو أعلن في مقابلة تلفزيونية أنه في أي لحظة سيعمد إلى ضخ مليار دولار في السوق، وهذا ما سيؤدي إلى تدهور سعر الدولار ورفع قيمة الليرة، لكنه لم يُقدم على هذه الخطوة حتى الآن، وما زال يعتمد أساليب ترقيعية، تحُدّ مرحلياً وآنياً من اندفاعة الدولار، لكنها لن تلجم الإنهيار الكارثي لليرة اللبنانية، وهذا ما أثبتته الوقائع خلال السنوات الثلاث الماضية. ومع رفع قيمة سعر الصرف الرسمي بداية شهر شباط ومعه سعر صيرفة، فإن الباب يفتح أمام أرقام جديدة لم يشهدها لبنان، إن بقي الحاكم لاعبا رئيسيا في العوامل السياسية والمضاربات السوقية، بعيدا من الواقع النقدي والمالي.
الدولارالليرة اللبنانيةمصرف لبنان
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024