معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

 البروباغندا وإيران
18/01/2023

 البروباغندا وإيران

أحمد فؤاد

حين انتصرت الثورة الإسلامية في إيران قبل ما يزيد عن 4 عقود، وضعت الثورة لنفسها أهدافًا كبيرة وكثيرة. على الصعيد الخارجي تبنى برنامج الثورة الذي وضعه قائدها روح الله الخميني "قده" طريق المقاومة المضاد للرغبات الأميركية ولمصالح عملائها في الغرب والمنطقة، بما يحمله هذا الطريق من تكاليف، وبما تفرضه حساباته من تضحيات.

أما على الصعيد الداخلي فكان مطلوبًا من الثورة أن تحقق الكرامة الإنسانية بمعناها الواسع، وأن ترسخ لعهد جديد يجد فيه المواطن العادي والبسيط الحرية والأمن والعدالة الاجتماعية واحترام حقوقه، والتي انتهكها نظام الشاه ومؤسساته وأدوات حكمه، إلى حد المهانة والإذلال.

وكانت المسافة أمام الثورة وأبطالها بين الهدف المطلوب وأمرها الواقع  ـ داخليًا وخارجيًا ـ مسافة فلكية تقاس بالقرون. كما أن رواسب وقيود الماضي لم يكن التخلص منها والانفكاك عنها سهلًا يسيرًا. وبقدر ما وجهت الثورة الإسلامية في عام 1979 أكبر ضربة لمخططات الولايات المتحدة والغرب، وأهم لطمة للأنظمة التابعة لهم في العالم العربي، والخليج خصوصًا، فقد كان رد الفعل الغربي عنيفًا في تصرفاته مصممًا على وقف هذه التجربة عند حد ما. وجاءت الحرب العدوانية التي شنها صدام بدعم غربي وخليجي كامل أول إجابة غربية عن سؤال الثورة الإيرانية، وفي المقابل أتى الصمود الإيراني المذهل في وجه العاصفة كأعظم ما تكون بداية الرحلة الطويلة إلى آفاق المستحيل.

وخلال حرب الخليج الأولى، ووصولًا إلى يومنا هذا، استمرت الحرب المعلنة على طهران بالقدر ذاته من الإصرار على كسر هذا النموذج الفاعل أمام شعوب وأمم غيرها، ووقف المدد النفسي والعملي الذي قدمته  ـ وتقدمه ـ الثورة لنفسها وغيرها في الأقليم والعالم، والأداة الرئيسية التي تقود الهجوم وتمثل رأس الحربة الأميركية، تتمثل في قوة شريرة غامضة تستعمل للتطويع والإخضاع، هي وكالة المخابرات الأميركية، بكل ما يحمله تراثها من دم وخراب، وكل ما تمثله من تهديد الموت الصامت.

تعلمت الولايات المتحدة درس الصمود الإيراني في حرب الخليج الأولى، واستفادت من مناخ مؤات أعقب سقوط الاتحاد السوفياتي وفراغ العالم من قوة أخرى تنافس وتهدد، وبدلًا من الضجيج الذي يثيره ويسببه السلاح عندما يتحرك، وينبه المستهدف إلى أنه معرض لتهديد النار، فإنها قد تحولت إلى العمل السري فوق الأرض وتحتها، وهي قوة جبارة قادرة على التشويه والكسر، وهدفها النهائي هو إفقاد المجتمعات لحريتها وفقدانها لثقافتها، وهو سلاح يمكنه التحرك دون جلبة كبيرة، ويمكنه التأثير والتغيير في واقع أمة دون أن تشعر حتى.

اليوم، تحمل بريطانيا نائبة عن الأميركي وممثلة للغرب، لواء الهجوم الأحدث على الثورة الإسلامية، وهو هجوم يندرج بالكامل تحت توصيف "البروباغندا"، والذي أثارته عملية إعدام جاسوس إيراني يحمل الجنسية البريطانية، فإذا بشأن داخلي قضائي، يحمل طابع السيادة الوطنية، يتحول إلى هاجس بريطاني فاق في قدرته على خطف الاهتمام الحكومي والتركيز الإعلامي والحشد السياسي قوة الأزمة الاقتصادية التي أشعلها التضخم وتعصف بها الأوضاع المعيشية والفشل الكامل في معالجة آثارها أو محاصرة تداعياتها.

والبروباغندا مصطلحًا تعود إلى القروسطية الأوروبية، جاءت من اللفظة اللاتينية "كونغريقاتيو دي بروباجاندا فيدي" والتي تعني "مجمع نشر الإيمان"، وهو مجلس قام بإعلانه بابا روما الكاثوليكي غريغوري الخامس عشر في عام 1622، وكان يهدف إلى نشر الكاثوليكية في المجتمعات الأخرى، ثم تنوعت بالتطور اللاحق استخدامات الوصف سياسيًا واقتصاديًا ودينيًا، وتوسعت الأهداف هي الأخرى إلى الترويج والدعاية والتأثير.

والوسيلة الأولى والأهم لحملات البروباغندا هي محاولة حثيثة لنشر المعلومات بطريقة عصا الساحر، مع تركيز جل الجهود على الترويج لأنصاف الحقائق بما يجعلها ــ في فضاء فارغ ــ هي الثابت الوحيد، وبما يضمن تأثيرها القوي على آراء وقلوب وعقول أكبر عدد ممكن من الناس، وبالتالي اتخاذ هذا المناخ توطئة لنشر القلاقل والفتن، واعتباره سلّمًا إلى قلب أوضاع الدول المستهدفة والخارجة عن الطاعة.

الهدف الأغلى للحرب الشاملة التي يشنها الغرب على طهران هو النظام الإسلامي القائم، ونموذج العمل المقاوم، الهدف الأغلى هو تدمير القدرة والإرادة وتبديد الثقة في النفس ونزع الإيمان من قلب المجتمعات، وبعد أن فشلت المحاولات السابقة للتغيير بالقوة، ومحاولات العمل المسلح المباشر وغير المباشر، لا يتبقى في جعبة الأميركي غير الفتنة والسموم.

بالتأكيد وفي أي حساب وتحت عنوان مراجعة النفس ومساءلة السياسات والأفكار ونتائج العمل الوطني، حققت طهران أكثر أهداف ثورتها، من وضع إقليمي تحولت فيه إلى فاعل، وحالة داخلية استطاعت أولًا امتصاص آثار الحصار والاستنزاف الغربي المستمرة والكاملة طوال أكثر من 43 عامًا، وصولًا إلى صناعة النموذج الهائل للدولة القادرة والمثل الأول للحرية وقيم العدالة الاجتماعية والأمن والتقدم.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات