آراء وتحليلات
قناة السويس.. الاستعمار يعود أحيانًا
أحمد فؤاد
الزمان: 26 تموز/ يوليو 1956.
المكان: مكتب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
الحدث: قبيل خطاب الزعيم الراحل بميدان االمنشية بالإسكندرية، والمعروف أكثر بخطاب تأميم قناة السويس.
جلس الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر إلى مكتبه وأوراقه ليضع تقديره للموقف المصري، عقب سحب الولايات المتحدة والبنك الدولي ورائها عرضهما بتمويل السد العالي، مشروع مصر الكبير آنذاك، وبرغبة أكيدة في الثأر من بيان مهين لوزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس، وبتوق شديد إلى استرداد الحق المسلوب، وبمعرفة بما كان يعنيه القرار ويستتبعه من حرب مؤكدة، كتب ناصر مذكرة بخط يده، أراد فيها أن يجري حساباته بدقة واعية للقرار مدركة لآثاره الهائلة.
الهدف: تأميم قناة السويس، تقدير الموقف: قرار تأميم قناة السويس سوف يؤدي إلى تعبئة جماهير الشعب المصري وجماهير الأمة العربية حوله، ويلهم الجميع بمعنى الاعتماد على النفس، وتأميم شركة القناة أيضًا سوف يكون ردًا كاملًا على سياسة الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، وسوف يبين لهم أننا قادرون على الحركة، متحملون لمسؤولياتها، وأنهم لا يستطيعون بعد اليوم أن يقرروا مصائرنا، فضلًا عن أن يقوموا بتوجيه الإهانات لنا، والقرار يحقق إمكانية تمويل السد العالي، كما أنه يلبي حقًا ما يراود أحلام كل المصريين، ويؤكد استقلال القرار السياسي، ويضيف أهمية القناة إلى أرصدة مصر الإستراتيجية.
كانت تلك أكثر لحظات الزعيم المصري الراحل مجدًا، وأعظم أيامه، وربما لن نتجاوز لو قلنا أن معركة تأميم قناة السويس والانتصار على العدوان الثلاثي بعدها هو أروع صفحة في تاريخ مصر الحديث بالكامل، إذ أن القناة ومنذ افتتاحها في 1869 بحفل أسطوري صارت هي النقطة المحورية التي يدور حولها التاريخ المصري، وتنعكس على صفحة مياهها تحدياته وآلامه وتضحياته، بل وآماله الكبار.
وكما كانت القناة هي لحظة المجد لناصر، فقد منحت الخلود الأسطوري لعدد من الشخصيات الأخرى البارزة في التاريخ المصري، منها الشاب المناضل إبراهيم الورداني، الذي اغتال رئيس الوزراء بطرس غالي "الجد"، صاحب مقترح تمديد عقد الامتياز لأربعين عامًا إضافية، واحتفظت القناة أيضًا بسجل الإدانة الأسود لحكام وشخصيات ومسؤولين، فرطوا في الحقوق المصرية وخانوها وقدموها على طبق من ذهب لأعدائها، وأولهم بالطبع سعيد باشا صاحب قرار إنشائها، مرورًا بإسماعيل بائعها، وغيرهم كثر.
خلال عملية حفر القناة، والتي استمرت عشر سنوات كاملة، وبدأت في 25 نيسان/ إبريل 1859 تمت عن طريق السخرة والعمل العبودي القسري، مات ما يتجاوز 120 مصريًا من بلد كان تعداد سكانه بالكاد لا يتجاوز 4 ملايين نسمة. وامتلكت الشركة الفرنسية الناشئة بقيادة فرديناند ديليسبس الحق في السيطرة على المرفق الحيوي والأراضي حوله ومبانيها بشكل كامل، وكل ذلك تم إقراره بفرمان من الوالي سعيد باشا، مقابل 44% من أسهم الشركة.
لكن البذخ الشديد للخديوي إسماعيل، وطموحه في أن يحوّل القاهرة -على الأقل- إلى مدينة أوروبية عصرية المبنى والشكل، ضاعف الديون الخارجية المصرية بشكل مزعج، ومع تكاليف الحفر الهائلة واستنزاف الخزانة المصرية بشكل مستمر، لجأ أخيرًا إلى بيع أسهم مصر في القناة إلى إنجلترا، لتستغل الحكومة البريطانية برئاسة دزرائيلي الفرصة الذهبية، وترسل السفينة بورنموث تحمل 4 ملايين جنيه في صناديق، وتعود إلى عاصمة الضباب محملة بالأسهم المصرية.
المثير للبكاء، في الحكاية التي تتكرر هذه الأيام، هي أن الحكومة البريطانية بعد أن حققت مرادها في امتلاك الأسهم، سرعان ما طالبت نظيرتها المصرية بنسبة 5% من الأرباح، كان إسماعيل قد تنازل عنها للشركة نظير تخفيف بعض الأعباء التي رتبها فرمان حفر القناة، فاستردت من مصر أكثر من الملايين الأربعة التي دفعتها لشراء الأسهم، أي أنها في الحقيقة قد حصلت على حقها في الملكية مجانًا، وهو ذاته ما يحدث حاليًا مع القروض الأجنبية التي تتبدد في مشروعات وهمية، ثم تفتك بالاستقلال الوطني العاجز عن تدبير ما تفرضه هذه الديون من شروط وفوائد وأقساط هائلة.
في الجمهورية الجديدة، كما يحلو لإعلام النظام الحالي أن يصفه، جرى استنزاف موارد البلد في مشاريع تفتقر إلى الجدوى الاقتصادية، فوق ما تتضمنه من جرح للكبرياء الوطني ورهن للقرار المستقل، وفيما يخص القناة بالذات، فقد جرى إهدار 8 مليارات دولار في حفر تفريعة موازية، في وقت كان –ولا يزال- الاقتصاد العالمي ينمو بمعدلات ضعيفة متدنية، ثم هي تضيف عائقًا جديدًا إلى آخر قائمًا، لو حانت لحظة الحقيقة أمام مصر، وهي مواجهة مع عدوها الأول القائم على الحدود الشرقية، وهذه إن لم تكن جريمة اقتصادية كاملة، فهي خطيئة وطنية لا تحتمل التأويل.
ثم وافق مجلس النواب المصري مبدئيًا، يوم الاثنين الماضي، على قانون مقدم من الحكومة، بتعديل قانون نظام هيئة قناة السويس رقم 30 لسنة 1975، والذي لا يسمح بنفاذ المستثمرين أو الأجانب إلى ملكية القناة أو إدارتها أو تشغيلها، بل على العكس يقضي القانون الجديد بإنشاء صندوق جديد لقناة السويس، يساهم -بمفرده أو مع الغير- في تأسيس الشركات أو زيادة رؤوس أموالها أو الاستثمار في الأوراق المالية.. و"شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال أصوله الثابتة والمنقولة والانتفاع بها"، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام بيع أو خصخصة المرفق الحيوي وتسهيل طريق الأجانب نحو التغلغل فيه، وفقًا لحديث صحفي أجراه رئيس الهيئة وقائد القوات البحرية السابق الفريق مهاب مميش.
السعيد: ثغرة
وفي تصريحات لـ "العهد" قال السياسي المصري مصطفى السعيد، إن قناة السويس أعز ما تملكه مصر، ليس لقيمتها المالية الضخمة فحسب، بل لقيمتها المعنوية، فتحت رمالها رفات آلاف الفلاحين من أجدادنا، الذين ماتوا جوعا وعطشا ومرضا، وهم يحفرون القناة بالفأس والمقطف، وعلى شواطئها تدفقت دماء آلاف الشهداء من جنودنا وضباطنا وهم يدافعون عنها، ولأن مصر وقعت في فخ الديون، التي أصبحت تلتهم نحو ثلث ميزانيتنا، وتجاوزت الحد الأقصى المسموح به في الإستدانة من صندوق النقد الدولي، مما يجعلنا ندفع فوائد إضافية، ويبدو أن مسيرة الإستدانة لن تتوقف قريبًا.
وحذر السعيد من الوقوع في المحظور، وأخطر المحظورات هي المساس بأعز ما نملك، هل الصندوق المزمع إنشاؤه فيه أي ثغرة يمكن أن ينفذ منها البيع أو المشاركة في أصول مملوكة للقناة بعد كل ما سمعناه؟ نعم ما زالت الثغرة موجودة، فالصندوق تمويله من أموال وأصول هيئة القناة بدون حد أقصى، والصندوق سيدخل السوق كمستثمر وبائع ومشتري ومؤجر، ومن هنا تأتي الثغرة، حصان طروادة المتخفي في صندوق قادر على البيع والشراء والتعامل في البورصة والمشاركة مع أجانب، ولا ينفي أي متحدث يريد طمأنتنا ذلك، ويتهربون من الإجابة عن موارد هذا الصندوق، وهل تشمل إلى جانب قسط من عائدات القناة التي ستعيدها وزارة المالية إلى الصندوق أصولًا أخرى تشمل أراضي ومعدات وغير ذلك؟ عندئذ نجد الصمت المريب، الذي ننتظر كسره بإجابة واضحة، فإما وقف التعديل، أو سد الثغرة التي يمكن أن يتسلل منها البيع أو الشراكة في أي من أصول القناة. فالبواعث على التعديل ليست قوية، وما يمكن أن تحتاجه هيئة القناة ستجده فورًا، ولا داعي لأن ينافس الصندوق وزارات وهيئات أخرى في الدولة غرضها الاستثمار.
تهديد خطير
ورفضت الحركة المدنية الديمقراطية مقترح مشروع تعديل القانون الأساسي لهيئة قناة السويس، واعتبرت أن المشروع باب جديد لخصخصة الأصول والتفريط في الموارد الوطنية، تحت وطأة ضغوط الجهات الدائنة، واستجابة لشروطها المجحفة، وهو بمجمله تهديد خطير للأمن القومي المصري، وتهديد أخطر على الموارد والسيادة الوطنية.
وأكدت الحركة، وهي تجمع للأحزاب المعارضة -الرسمية- في بيان لها، أنها ترفض بشكل قاطع كل احتمال لخصخصة أي جزء من موفق قناة السويس، التي تعد مصدرًا أساسيًا من مصادر العملة الصعبة، وفوق ذلك هي رمز للشعب المصري وكفاحه الطويل وتضحياته التاريخية، مضيفة أن المشروعات التي يجري طرحها من الحكومة وإقرارها من البرلمان عاجزة عن مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها مصر، والتي تسببت فيها السياسات الحكومية ذاتها، مشددة على أن الحكومة يجب أن "تسحب هذا القانون فورًا، تقديرًا لقدسية الرمز ووضعه فوق الشبهات ولسيادة مصر على مواردها وشريانها الحيوى".
وأوضحت الحركة أن رفضها للقانون ينبع أيضًا من كونه باب خلفي للتسريب من الموازنة العامة، والمنهكة أصلًا. وفي حين يطالب خبراء الاقتصاد بضم كل موارد الصناديق الخاصة للموازنة العامة لإتاحة مواردها وفرض الرقابة عليها، تقوم فلسفة القانون الجديد على فتح بوابات الجحيم على فوائض قناة السويس وحصيلة رسوم المرور منها، وهي تدفع بالعملة الصعبة، في وقت تجد الحكومة نفسها في مأزق تدبير كل دولار.
وحمل لواء رفض القانون الجديد أحزاب أخرى، على رأسها حزب الكرامة والحزب الاشتراكي المصري والحزب العربي الناصري والشيوعي المصري والمحافظين، وغيرها. قصة قناة السويس في مصر لا تعد حكاية شركة أو مورد مالي مهم وكبير، بل هي قصة الكرامة الوطنية النازفة والاستغلال الأجنبي في أقبح صوره وأشكاله، وتعد أساسًا جامعًا لدى كل منتم لتيار وطني حقيقي، وكان لا بد لها من أن تجمع الكل على كلمة سواء، في ظل غياب المواقف وتجمد الشارع السياسي واليأس الذي ضرب كل المفاصل الحيوية في مصر.
مستقبل أسود..
في يوم ما، عقب توقيع اتفاقية كامب دافيد بين مصر والكيان الصهيوني، انتبه العبقري المصري جمال حمدان إلى خطورة ما تحمله تلك الاتفاقية المشؤومة على مستقبل مصر، فكتب أن "مصر تتحول لأول مرة من تعبير جغرافي إلى تعبير تاريخي، بعد أن ضاقت أمامها الخيارات، ليس بين السيئ والأسوأ، وإنما بين الأسوأ والأكثر سوءا، ووصف بقاءها واستمرارها بأنه نوع من القصور الذاتي، وأن مصر تهرب من المستقبل الأسود، بل من الحاضر البشع، إلى الماضي التليد".
وكتب "حمدان"، المتوفي في حريق غامض بشقته في 1993، أن بداية النهاية لمصر كانت في كامب دافيد، أما نهاية النهاية بالنسبة لها كانت حرب العراق -حرب الخليج الثانية 1991- وزاد بقوله إن "كامب دافيد تعني مباشرة إطلاق يد الكيان في مصر مقابل إطلاق يد مصر في سيناء، وأن مصر منذ الاتفاقية لم تعد مستقلة ذات سيادة وإنما هي محمية أميركية تحت الوصاية الصهيونية، أو العكس محمية صهيونية تحت الوصاية الأميركية".
وكما قال في أوراقه الخاصة إنه "بقيام الكيان في 1948 فقدت مصر ربع دورها التاريخي، ثم فقدت نصف وزنها بهزيمة 1967، ثم فقدت بقية وزنها جميعا في كامب دافيد، مصر الآن خشبة محنطة، مومياء سياسية، كمومياواتها الفرعونية القديمة، ولا عزاء للخونة".
ولا عزاء للخونة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024