آراء وتحليلات
"الثورة" الملونة في إيران.. استعراض أميركي جديد
أحمد فؤاد
صار البؤس الشديد هو الملمح الأهم في العالم العربي. اليوم، لا يكاد يجتهد المتابع كثيرًا وهو يتابع المواقف والانحيازات من كل قضية مطروحة على الساحة، ويلقي عليها بهذا التعريف الملائم تمامًا لسياسات الأنظمة العربية ومسيرتها. ويكاد العقل يتميز من الغيظ وهو يتابع مواقف لا تحتاج إلى بديهيات، وإلى إعادة تعريف ما هو منطقي وضروري، ولا تراعي حتى مصلحتها المباشرة، ولا تمارس محاولة تجنب النار التي تشعلها حولها، وتكاد تصل إليها وتحرق أيديها وخيامها، قبل أن تؤذي غيرها، كما تخطط بغباء واندفاع شديدين إلى المجهول.
وكما يخفي الدخان ــ أحيانًاــ مدى النيران واتساعها، ونقاط بداياتها، تضيع في غبار الصخب الإعلامي الشديد وفحيح الصياح الإنسانوي المتصنع، حقائق الوقائع الأولية وجذور كل ما يظهر أعلى الركام من فروع. وفي القصة/ المأساة الشرق أوسطية الجارية، فإن هدف الطمس الخليجي للمؤامرة تضافر مع رغبة التدمير ونشر الفتن وتصدير الثورة الملونة الأميركية الجديدة إلى الجمهورية الإسلامية.
هذا كله مع ملاحظة أن الإشارات الإعلامية الخليجية الناعقة لا تختلف في كثير أو قليل عن تلك القادمة من واشنطن. ورغم أن العالم والمنطقة بصدد عالم جديد، لا يزال يتشكل وتتحدد ملامحه بعد أن ظهرت أطرافه، وتختلف مفاهيمه وتعريفاته وقاموسه اللغوي تمامًا عن عالم سيطرة القطب الواحد وتفرده بالقرار الدولي، وخطفه لإمكانيات الحركة والفعل والتأثير، غير المحدود ولا المقيد، فإن السؤال الملح للغرب "من هو العدو؟" باتت إجابته واضحة، وسارت وراءها أنظمة الحكم الهشة في الخليج بكثير من الحماقة والاندفاع غير المبرر.
العدو هو الحلف الشرقي الصاعد، روسيا والصين وإيران، هذا هدف أميركي معلن، استبقته محاولات للسيطرة على التفوق الصيني الهائل صناعيًا واقتصاديًا قبل 5 سنوات، وهي مرحلة جربت حظوظها وخسرت كل أوراق الربح مقدمًا، تلاها الصراع العسكري الروسي الأوكراني، وهي ساحة مشتعلة، وقد تنفجر في وجه الجميع إن لم يحدث تراجع ما عند لحظة معينة من الصدام الهائل، وهي لحظة قادمة، وأكثر من ذلك، قريبة.
يمكن تفهم دفاع الولايات المتحدة الأميركية عن وضعها العالمي المتفرد، والشاذ، ويمكن رؤية بعض المنطق لدى شعوب أوروبا في السير ولو بحماقة وراء الخطط والرغبات الأميركية، إذ إن قيادة العالم توشك أن تنتقل من بين أيديهم، ومركز الثقل الدولي يتجه شرقًا، ولا يبدو أن أحدًا قادر على ملاحقته، في ظروف طبيعية.
والخطة الأميركية المجربة، والفعالة جدًا، سبق أن مارستها في المنطقة، عبر تفجير احتجاجات شعبية هائلة، بدأت من حدث واحد جرى التركيز عليه وتضخيمه ورفعه إلى رأس جدول أولويات كل مواطن، وغالبًا ما يكون حادثًا أمنيًا، كما جرى في مأساة انتحار الشاب محمد البوعزيزي في تونس أو خالد سعيد في مصر، يتلوها تحول شأن الدولة المستهدفة إلى قمة الاهتمام الإعلامي الغربي والعالمي، ووصم الدولة/ النظام بالقمع والاستبداد، ثم تدفق الدعم المالي ونشر الكاميرات ترصد كل شاردة تؤكد الرؤية الأميركية للأحداث، وبتواطؤ من دول الجوار والمحيط الجغرافي، يجري تنسيق العمل الخفي لأجهزة الاستخبارات والتدخل السافر في حركة الأحداث اليومية.
والنظم أو الحكومات أمام هذا العدو تشبه أكثر ما تشبه مريض السرطان، إنها حتى على المستوى الإنساني قبل السياسي أمام عدو من نوع مختلف، عدو لا تستطيع أن تراه، لكنه ينفذ كل لحظة إلى أجزاء جديدة من جسده، ويتمدد إلى مفاصله وأعصابه، ويحتل فيه موقعًا أو عدة مواقع، والحكم المستهدف غير قادر على رصد الحركة الدقيقة لهذا العدو، ولا يستطيع متابعتها بهدوء، ثم هو عاجز عن الدفاع عن نفسه بالشكل المطلوب، وحتى حين يغلق عينيه فإن هذا العدو ساهر لا يغفو، وحين يقرر العمل فإن عدوه متفرغ له تمامًا، يستجيب للتغيرات بمرونة هائلة، ويتماهى مع كل التطورات بسلاسة، ويتحرك بسرعة مرعبة، متأثرًا بالوقائع أو مؤثرًا بها.
لكن وجه الاستغراب الحقيقي في ما يجري بالمنطقة يبقى هو الموقف الرسمي الخليجي، والذي تترجمه بصدق وبغير تجنٍ المواقف المعلنة تمامًا مما يجري في الجمهورية الاسلامية الإيرانية من محاولات "تثوير"، تشبه ما جرى في موجة الربيع العربي المدمرة، التي ضربت المنطقة منذ أكثر من عقد، وتركت دولها في حال من الخراب والبؤس والفقر شديد، بل واستطاعت فوق ذلك أن تفتت كل تهديد موجه إلى أعداء الأمة، وبددت كل رصيد قوة كان متوافرًا لدى بعض دولها، وعزلت الجميع وراء ستار ضباب كثيف من الحكم الفاسد والسلطة الفاشلة، وخلف طبقات مظلمة من العجز المستمر والانكفاء الدائم.
بداية فإن غالبية أنظمة دول الخليج بذلت وتبذل جل جهودها حاليًا لدعم الخطة الأميركية للتدمير الذاتي للمجتمعات، عبر بث قنوات ووكالات أنباء موجهة إلى إيران، لا تتوقف عن التأليب والفتن، وبدأت الأموال الخليجية تعرف طريقها إلى النشطاء والمتآمرين ومحركي الأحداث في المدن الإيرانية، وتحاول أن تستميل مجموعات عرقية أو طائفية لدعم الحراك المصطنع، وأكثر من هذا، فإن دولًا خليجية نشطت فيها غرف عمليات لقيادة وتنسيق الجهود المبذولة للإيحاء والتضخيم والتأثير على الأحداث.
هذه الكيانات التي نشأت من مجهول واستمرت في فراغ، لم يكن لها أن تقوم إلا بتوافر شرط اجتماع الإرادة البريطانية مع الثروة الطارئة للنفط، وهي إن فقدت أحد الشرطين فإن بقاءها ذاته سيكون لغزًا لو استمر، لهذا فهي في احتياجها لحماية الولايات المتحدة الدائمة والمستمرة، قد كادت تفرط في نفسها، وتمحو شروط أمنها القومي وتعصف بقلب فكرة وجودها.
العداء الخليجي لإيران يمكن فهمه، لو اقتصر الأمر على دفع طرف للعمل ضد طهران، ووقفت هي موقف المتفرج الداعم له، كما حدث سابقًا في حرب صدام العدوانية على الجمهورية الإسلامية (1980- 1988)، وقد يكون مقبولًا للعقل أن تدفع هذه الأنظمة بدولة كبرى إلى التحرك ضد إيران، كما تفعل في تحريضها المستمر لواشنطن، لكن ما لا يمكن للمنطق السليم ابتلاعه، هو تحولها من وسيلة في يد قوى خارجية، إلى أداة للفعل وللحركة ضد إيران، بكل ما يمثله الفارق على ضفتي الخليج من دهشة.
إن إيران ليست دولة ناشئة من فراغ ما بعد سايكس بيكو، ولا هي كيان اصطنعت خطوطه ونقاطه الفاصلة محادثات القوى الكبرى، بل هي تعبير كامل عن أمة واحدة، حقيقة ضاربة في الجغرافيا، نشأت ونمت عبر ارتباط استمر عشرات القرون بين مجموعة من البشر على رقعة محددة من الأرض، ومحيط حاكم بالتضاريس والثوابت، ثم فعل تاريخي لهذه الأمة، حياة تصنع نفسها بنفسها عن طريق التفاعل الخلاق بين الأرض والبشر والمحيط الخارجي، يتطور وينمو بالتحديات والفرص التي يجابهها على طول الزمن، وتحققت نتائجه وآثاره في تماسك المجتمع ورقيه، وفي خلق أدواته الحضارية المتفردة، مثل اللغة والهوية والثقافة والصورة المتمايزة له، وفي اتساق القوانين والقيم والعادات والأعراف، ورابطة تجمع الكل وتشدهم إلى كيان واحد، يملك ماضيه ويفهمه، ويهضم متغيرات حاضرة، وهو يسعى إلى المستقبل بضرورات وطنية وأولويات قومية واحدة، وبالتالي فإنها كأمة تستعصي على محاولات التفكيك أو خطط التفتيت.
وأما السلطة في إيران، ومنذ الثورة الإسلامية، فإنها سلطة تستند إلى الشعب وإلى الشارع، تفهم واقعها جيدًا، وتتحرك في طريق الأماني الطبيعية والعامة للناس، تنطلق من حيث ترى التحديات، وإلى حيث تحلم الغالبية من أبناء شعبها، وتحملها الانتخابات إلى كرسي الحكم، وتغطيها الشرعية الدينية والإيمانية. وقبل كل ذلك، فقد تعمدت العلاقة بين الثورة والجماهير والسلطة بالدم والألم والعرق، سواء في حروب وكالة مباشرة، أو في حرب الحصار الأميركي المستمرة، والكاملة.
يمكن فهم أسباب فشل أحدث موجة من الثورة الملونة في إيران، من قراءة واعية للتاريخ الإيراني، وإلمام بالحاضر الثري لها، منذ قيام الثورة الإسلامية وإلى اليوم، رغم كل الحشد العالمي لها، من بث الإنترنت عبر الاقمار الاصطناعية إلى دعم فصائل إرهابية مسلحة، وصولًا إلى محاولات عسكرة التحركات ضد أجهزة الدولة ورموزها الكبرى، ووقوف القيادة الإيرانية في خندق الوطن، وتعبيرها الصادق عن أمتها وآمالها الكبرى، يمكن بكل أمانة وتجرد الوثوق بعبور طهران التحدي الأميركي الجديد، ويمكن أيضًا فهم أزمة غالبية الأنظمة الخليجية الحالية، التي تنتظر ردًا إيرانيًا ما، بعد أن حصدت بالفعل ثمار خيبة المسعى وإحباط الجهد.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024