آراء وتحليلات
هتلر الناتو الجديد 2/2
أحمد فؤاد
الحرب الروسية الأوكرانية، وإن كانت تكفي للتدليل على شيء واحد، وفقط، فإن هذا الشيء بالتأكيد سيكون أن الغرب يتواجد حيث تواجدت مصالحه، وحيث كانت الفائدة، وأن المبادئ والأخلاق والقانون الدولي، كلها أكاذيب مجردة، يجري الطنين بها ليل نهار، وطوال الوقت، لصرف الانتباه عن حجم وعمق الجرائم التي ارتكبها هذا الغرب ــ الأخلاقي جدًا جدًا ــ تجاه كل شعوب الأرض، كل بدوره، وكل حين تحين ساعته.
هناك نقطة أخرى في قصة تشابه تعامل الغرب والولايات المتحدة مع الأنظمة الفاشية في ألمانيا والعراق أو أوكرانيا.
كل شخصية يحرص الإعلام الغربي والأميركي على تنجيمها وتلميعها، وإضفاء صفات البطولة والمصداقية عليها زمن الصراع، توطئة لتبرئة ساحتها بعده، لا تكون إلا إحدي اثنتين، خائن بالفعل أو عميل محتمل، والمغازلة الإعلامية المكثفة لتلك الشخصيات، هي المقدمة المنطقية لعلاقة حرام، تستهدف أول ما تستهدف إرادة الرجال وقدرتهم على المقاومة والصمود، حتى النفس الأخير.
وهذا الأمر ينطبق على شخصيتين مختلفتين كل الاختلاف، في ألمانيا الهتلرية والنظام العراقي البائد، هما الجنرال الألماني إرفين رومل، القائد الألماني الأشهر في حروب المدرعات، ومسؤول الدفاع عن أوروبا في النظام النازي، ووزير الخارجية العراقي السابق طارق عزيز، وكلاهما وقع ضحية اختبار الإرادة أمام الغرب، حين تعلقت مصائر أوطانهما بقرار واحد في لحظة فارقة من تاريخ الصراع.
ونبدأ من القصة الأولى، ودور الإعلام الغربي في صناعة أسطورة ألمانية تدعى "رومل"، إذ بالغت الدعايات ــ من كلا الجانبين ــ في إسباغ صفات العظمة والتتويج بأكاليل المجد والفخر، وتركزت كلها حول شخصية البطل الألماني، القادم من صفوف عامة الشعب إلى النخبة المتميزة من قادة ألمانيا النازية، وهو القائد البارع الذي لا يبارى في حروب المدرعات، في السهول وعلى رمال الصحراء.
ورغم أن مغامرة رومل العسكرية الكبرى كانت تدور حول أمنيات فارغة، بالوصول بقواته المحدودة إلى قناة السويس، وحتى المبالغة والتهويل بقدرتها على الاتجاه عبر الشام وصولًا إلى الجمهوريات الجنوبية للاتحاد السوفييتي السابق، إلا أنها انتهت بشكل كارثي عقب معركة العلمين الثانية، أمام الجيش البريطاني الثامن بقيادة مونتغمري.
وكانت دعاية الطرف البريطاني تحاول تصوير رومل في النصف الأول من معارك الصحراء بصورة بطل أسطورة إغريقية لا يُهزم، لتبرير هزائم جيوشها الأولية، واضطرارها إلى التراجع من ليبيا إلى غرب مصر، ثم أصرت على استمرار تصدير الصورة ذاتها عن البطل والأسطورة لتضخيم نصرها ودوره في الحرب العالمية الثانية عمومًا.
عاد رومل إلى ألمانيا ليتولى على الفور مهمة جديدة، تسبقها الثقة المطلقة التي أحاطت به أينما حل، بالدفاع عن الشواطئ الفرنسية ومسؤولية الجدار الدفاعي الأطلسي الشهير، أمام إنزال لقوات الحلفاء، كان معروفًا أنه قادم، وكان يقينيًا أنه واقع.
ورغم كل ما يقال عن توقع الجنرال الألماني لمكان الإنزال، شواطئ نورماندي، على خلاف توقعات قياداته الأعلى باستهداف الحلفاء لشواطئ ميناء "كاليه"، إلا أن هذه التوقعات المنسوبة للأسطورة لم تؤد في الواقع إلى تغيير في عقلية أو تكتيك الدفاع الألماني، ونقله من التركيز على كاليه إلى نورماندي. ولم يترك على أثر صفحة الوقائع الشيء الكثير، بل والأدهى أن يوم الإنزال شهد تغيب القائد الألماني الشهير عن فرنسا كله، وتواجده في ألمانيا للاحتفال بعيد ميلاد زوجته، وحين عاد إلى مقر قيادته كانت الساعات الثمينة قد مرت دون فعل ألماني حاسم، واستقرت القوات الأميركية والبريطانية والكندية بالفعل على الشواطئ الخمس التي تقرر سلفًا الإنزال عليها، وانتهى الأمر في الواقع قبل أن يبدأ يوم السادس من حزيران/ يونيو 1944.
أما ما جرى بعد نجاح الحلفاء في الإنزال، واندفاعاتهم الهائلة والمؤثرة في فرنسا، فهو القصة التي تستحق أن تروى ويعاد قراءتها، فقد فكر رومل مرات في التفاوض والاتصال بغريمه السابق في شمال إفريقيا "مونتغمري"، ليقود تسوية بين الحلفاء وألمانيا، في وقت كانت المعارك أولى بكل لحظة جهد وكل ذرة عقل أو تفكير.
في اللحظة الحاسمة للصراع، فكر رومل في الانسحاب، وشارك في مؤامرة اغتيال هتلر الشهيرة "العملية فالكيري"، والتي كانت تستهدف تصفية النظام النازي، والتصالح مع الحلفاء، والتركيز لمواجهة العدو السوفييتي، وهي لحظة ظهرت فيها إرادة الرجل على حقيقتها، بعيدًا عن مساحيق التجميل وأضواء الإعلام، التي تخفي ما تريد وتبرر ما تريد تبريره أو تمريره، وحتى انتحار رومل الإجباري في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1944، لم يحقق الأسطورة الألمانية تغييرًا يذكر في كل معارك فرنسا أمام الحلفاء.
رجل آخر اختار السقوط في لحظة الإرادة هذه، وفي وقت كان وطنه أشد ما يكون الاحتياج لكل قيمة ومعنى، هذا الرجل هو طارق عزيز، وزير الخارجية العراقي الأسبق، والذي عرفه الغرب من خلال قنوات "سي إن إن" وغيرها دبلوماسيًا لامعًا وثعلبًا ماكرًا يستطيع المناورة والمراوغة، وينهك الأميركيين في متاهات مكره ودهائه، واللحظة الفارقة كانت في اجتماعه بالشخصية الهادئة جدًا جيمس بيكر، وزير خارجية جورج بوش الأب، والذي جرى في جنيف يوم 9 كانون الثاني/ يناير 1990، وقبل أسبوع واحد من بداية عملية عاصفة الصحراء.
كان الاجتماع، الذي تم بناء على اقتراح أميركي، يجري الترويج له على إنه "اجتماع الساعة الحادية عشرة للسلام"، وكأن اليد الأميركية الحانية تمد فرصة أخيرة للعراق والعالم لتجنب الحرب المحتمة لتحرير الكويت، واستجاب الوزير "الداهية جدًا"، بناء على هذا التصور.
إلا أن ما جرى بين الوزيرين في اجتماع مغلق كان هو الغرض الأميركي الحقيقي من اللقاء، حيث قام جيمس بيكر بتسليم رسالة خطية من بوش إلى صدام حسين، قرأها الدبلوماسي ورفض تسلمها على أساس أنها شكليًا لا تناسب حديثًا موجهًا إلى رئيس دولته، بينما كانت الرسالة الأكثر أهمية هي ما رواها بيكر في مذكراته، والمعنونة بـ "سياسة الدبلوماسية"، أنه نقل إلى وزير الخارجية العراقي ما يمكن أن نصفه بإنذار قال فيه: "نعلم أنكم تمتلكون أسلحة دمار شامل، وإذا استخدمها العراق ضد قواتنا فإن الشعب الأميركي سيطالبنا بالرد والثأر، ونحن قادرون عمليًا على الرد، هذا ليس تهديدًا لكنه وعد".
في تلك اللحظة، وبناء على الرد العراقي، كانت نتيجة حرب الخليج الثانية قد تقررت بالفعل، قبل أن تتحرك حتى الطائرات من مدارجها إلى أهدافها، سقط العراق في اختبار الإرادة وبالتالي أدركت الولايات المتحدة أنها أمام خصم "مهزوز"، وبسرعة أعادت الرئيس العراقي إلى حجمه الحقيقي، مع إعادة العراق كله إلى العصر الحجري، كما وصف قادة التحالف مهمتهم.
كان من المنطقي، والضروري، أن يتوقع العراق الرسالة، وأن يجهز طارق عزيز ردًا لا يعرف التهاون أو الضعف أو سياسة الملاينة، وأن يسجل أمام الوزير الأميركي إرادته وإرادة بلاده، إن فكرتم في الهجوم علينا، سنفتح بوابات الجحيم على قواتكم أيًا تكن مواقعها، وبكل ما لدينا من سلاح، أو حتى ما يمكننا الحصول عليه، ولن نعرف خطوطًا حمراء في الدفاع عن أنفسنا.
هذه السياسة المهادنة أسقطت العراق عسكريًا في حرب الخليج الثانية، ثم أسقطته في فخ الحصار الدولي بعد ذلك لأكثر من عقد، قبل أن تقود البلد كله إلى شراك الاحتلال الأميركي الذي بدا أحيانًا وكأنه أقرب لنزهة أو استعراض أحدث ما لدى الترسانة الأميركية من سلاح وقذائف، وللغرابة فقد استخدمت واشنطن في غاراتها وقصفها داخل المدن العراقية لقذائف تحوي "اليورانيوم المنضب"!.. لكن العراق قد فوت أوان الرد والتحدي.
وبالسياسة ذاتها يستمر الغرب في دعم المهرج الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وساعد في إشعال رغباته الجنونية بمواجهة مع روسيا، يصبح بعدها بطلًا وقديسًا لدى الشعوب والدول الغربية، مضحيًا بكل شيء في سبيل هذه الغاية العظمى.
لا شك في أن نهاية زيلينسكي لن تختلف كثيرًا عن عزيز، الذي نفي معززًا مكرمًا إلى الإمارات وأفلت من أية ملاحقة قانونية أو دولية تخص أطراف النظام العراقي، أو رومل الذي جرى غسل سيرته بعد هزيمة ألمانيا، واعتباره بطلًا خارج سياق الهجوم على النازية أو محاولات تدميرها وتشويه كل من يمت لها بصلة، وهذا الدور ــ المنفى أو الانتحارــ هو غاية كل خائن ومتعاون مع الغرب، وإن طالت بهم المسافات أو امتدت ظلال السلطة.
ويمكن الإجابة على سؤال لماذا تتجنب الولايات المتحدة الحرب على إيران أو الصين من هذه الخلفية وحدها، ففي الصين جاء المشهد المخزي لإخراج الرئيس السابق "هو جينتاو"، والذي كان يتبع ويدعو إلى سياسة التهدئة واللين مع الغرب من اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الحاكم، بل وإذاعتها، ليفهم العالم أن قيادة الصين الحالية برئاسة شي جين بينغ لا تفكر في ممارسة مثل هذه السياسة على الإطلاق.
كما أن العداء "الجذري" للنظام الإيراني مع أميركا معروف ومعلن، ولا يقتصر على البيانات الرسمية أو التصرفات السياسية، وإنما دفعه الإمام القائد روح الله الخميني إلى درجة الممارسة الإيمانية العميقة، وربطها بشكل مباشر بصراع المسلم اليومي مع الشرور والشهوات، حين وصف أميركا بأنها "الشيطان الأكبر"، وهو ما لا يشي بأية بوادر ضعف أو تهاون أو احتمالات مهادنة وتراجع في قصة الصراع الإيراني الأميركي، وبالطبع لن يندفع الجيش الأميركي إلى حرب تبدو مكلفة، بأكثر مما يتحمله مجتمعه الهش.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024