آراء وتحليلات
ماذا لو انهارت أمريكا؟
عبير بسّام
يشهد العالم اليوم تراجع القوة الأميركية وتقهقرها، فالدولة التي عرفناها منذ بداية التسعينات مع انهيار الاتحاد السوفياتي تقود العالم منفردة تشهد اليوم منافسة في تفردها هذا أمام عدد من الدول ومنها الصين وروسيا. إلى أي مدى ستتراجع القوة الأميركية في العالم؟ هذا ما قد نكتشفه خلال السنوات العشر القادمة على الأغلب، وقد تكشف انتخاباتها النصفية القادمة الكثير عما تبقى من قوتها، والتي يتوقع الكثيرون أن تشهد فيها انقساماً حاداً. فالأزمة كبيرة، الجمهوريون وصحافتهم بشكل عام يجادلون حول إمكانيات الرئيس الحالي جو بايدن العقلية والجسدية، وفي عدم قدرته على تنفيذ برنامجه الإنتخابي. وتستغل النقطة الأخيرة لصالح إضعاف الرئيس عبر انتخاب كونغرس جديد تكون فيه الأغلبية للجمهوريين، وعلى المقلب الآخر يتخبط الديمقراطيون مع المستجدات التي طرأت في العالم، والتي خرجت عن السيطرة الأميركية تماماً.
من المؤكد أن أميركا قد وصلت الى قمة دولاب الحظ، الذي تحدث عنه ميكيافيلي في بدايات عصر النهضة، وقد تربعت على قمته بعد سقوط الإتحاد السوفياتي في بداية التسعينات، ووصلت أوج قوتها وسلطتها في بداية القرن الحادي والعشرين. وساهم في ذلك أيضاً تخلي الأوروبي عن دوره في العالم وتراجعه لصالح الديون التي أقترضها من البنك الدولي لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ما ساهم كذلك في تفرد أميركا بالهيمنة العالمية. اذ غدا الإتحاد الأوروبي، الذي كان من المفترض أن يؤسس لإتحاد اقتصادي جامع وداعم لأوروبا، قوة سياسية فاشلة، تشبه في قراراتها سياسة جامعة الدول العربية. وكما تدير الجامعة العربية اليوم، مجموعة من الدول التابعة لأميركا والصهيونية العالمية، فإن الإتحاد الأوروبي بات في الحضيض وفي قبضة الأميركي، بعد أن أفشل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إقامة الجيش الأوروبي في العام 2018، وفَرض "الخوة" على الأوروبيين من قبل الرئيس دونالد ترامب من أجل دفع تكاليف الجيش الأميركي في أوروبا. إجراءات استمرت لفترة من الزمن جعلت أوروبا الغربية ومعظم دول أوروبا الشرقية ألعوبة بيد الأميركي.
هل ما فعله ترامب يقع في دائرة القرارات الأميركية العميقة، أم في دائرة الإجراءات الترامبية الحمقاء؟
ترامب رجل مال، والعقيدة التي سادت خلال فترة حكمه هي "عقيدة المال". ومن خلال هذه العقيدة، كان انسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، لتكريس مبدأ التجارة الحرّة مع أميركا وبالتالي سياسة "صفر جمارك" على البضائع الأميركية. وألزم أوروبا وممالك الخليج العربي بتحمل عبء جزء كبير من تكاليف الجيش الأميركي في أراضيهم، ومن ثم فرض على الخليج وخاصة السعودية وقطر إجراء صفقات السلاح الكبيرة، وتمويل الحرب على سوريا وليبيا وفي السودان. ثم جاء أخيراً توقيع اتفاقيات "أبراهام"، والتي بشكلها العام هي اتفاقيات "تطبيع"، ولكن في باطنها فوق ذلك هي اتفاقيات تجارية، مكّنت الكيان العبري المؤقت من الإشراف الملاحي والإستخباراتي على أهم الممرات المائية من الخليج العربي إلى البحر الأحمر فالمحيط الأطلسي وصولاً إلى البحر المتوسط، والإستفادة من طرق مختصرة للتجارة بعد أن كانت سفنه وطائراته تدور حول البحار. وأدى تمكين الكيان من هذا إلى ضعف أكبر للدور الأوروبي في العالم القديم، حيث تنشط الشركات العابرة للقارات والتي ترتبط بنظام إدارة وحيد، هو النظام العالمي الجديد. وأهداف هذا النظام، يجب أن نضعه في الحسبان كلّما تحدثنا عن إنهيار امريكا أو صعودها أو هبوطها.
بالطبع كانت "ابراهام" بالنسبة للكيان والولايات المتحدة خياراً هاماً، ولكنه ليس الوحيد في المنطقة. ولذلك كان العمل مضاعفاً لتقويض قدرة الصين وروسيا من الدخول في استثمارات حقيقية في المنطقة. وانسحاب "نوفاتيك"، الشركة الروسية، من "كونسورتيوم" التنقيب عن الطاقة في لبنان مؤخراً هو خير دليل على ذلك، وكذلك وضع العراقيل أمام الصين من الإستثمار في الكهرباء والمواصلات. ومثال آخر، كان في اطلاق الثورات البرتقالية في العراق في زمن رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وكان خلفه الأميركيون من أجل وقف ادخال الشركات الصينية إلى العراق لإعادة بناء قطاع الكهرباء، إضافة إلى استثمارات أخرى. وتأجيل الإستثمارات الصينية في سوريا له دلائله في احتدام الصراع الأميركي الصيني، اذ واصل ترامب إجراءاته ضد الصين، فألغى اتفاقيات التجارة العالمية معها، وخرجت أميركا من منظمة التجارة العالمية.
تزامن ذلك مع تفشي وباء كورونا، حيث قدمت روسيا مؤخراً العديد من الوثائق والدلائل على تورط الأميركيين في نشر الوباء بعد استحواذها عليها في داخل المخابر الأميركية في أوكرانيا، فتراجع الإقتصاد الأميركي بشكل ملفت، وزاد الطين بلة تفاقم الوضع في اوكرانيا وتوقف ضخ الغاز إلى أوروبا وارتفاع أسعار المحروقات، وشح الغذاء وارتفاع اسعاره عالمياً. واتضح بعد إجراءات التصعيد الذي قادها الرئيس الأميركي جو بايدن في أوكرانيا ومن ثم في المحيط الهادئ وبحر الصين الشمالي، أن ترامب لم يكن يتخذ إجراءات ترامبية حمقاء، بل كان يمهد لمرحلة جديدة يبنى عليها النظام العالمي الجديد، وكان من المفترض أن يقطف الديمقراطيون ثمارها خلال هذه المرحلة التاريخية.
الأمر الآخر الذي يقلق الأميركي، والذي سيؤدي حتماً إلى فقدان أمريكا مكانتها في العالم، هو انتقال الصناعات الإلكترونية الدقيقة من أمريكا إلى الصين، وخاصة في تايوان. وقد شرح بيتر فرانز شفايتزر في كتابه "المتلبسون بالجريمة"، كيف ساهمت النخب الأميركية وخاصة أصحاب "مايكروسوفت" و "آبل" وحتى السياسيون الكبار وبعض أفراد الأجهزة الأمنية والدبلوماسية والسياسية في نهوض الصين وإغنائها. وهذا القلق حقيقي، لذا تحاول الدولة العميقة العمل على التخفيف منه من خلال الدفع نحو حرب داخلية بين تايوان والبلد الأم، وبالتالي خلق البلبلة الداخلية. وهذا بالضبط ما حصل في معركة أوكرانيا وفي محاولة إثارة الإضطرابات في إيران، والدور القادم على كازاخستان. وإذا كانت أميركا قد ضخت مليارات من الدولارات من أجل إثارة الفوضى في لبنان، فهل يمكننا تخيل الرقم الذي تصرفه اليوم حول العالم من أجل قلب الأنظمة أو تحطيم الدول التي تنافسها؟ وخاصة في الدول الصاعدة في مجال الصناعة التكنولوجية كالصين، وفي مجال الصناعات العسكرية كروسيا. مليارات الدولارات في وقت تعاني فيه الدولة العظمى من التضخم، واحتمال الإنهيار الاقتصادي.
قبل أيام أعلن الرئيس الروسي أن نظاماً عالمياً جديداً قد بدأ، وأن نظام الأحادية القطبية لم يعد ساري المفعول، فالعالم قد تغير. تغيرٌ ، إذا ما سار بحسب المخطط الموضوع له، وأكمل مسير الخطط التي وضعها، وخاصة الإقتصادية منها، والتي تتعلق بتعدد أنظمة التعاملات المالية، وبالتالي الإستغناء عن الدولار كعملة يقاس بها اقتصاد الدول، وتوسيع رقعة التداول بالعملات المحلية، وعودة تقييمها بناء على احتياطيات الذهب في كل دولة، فإن هذا يمكنه أن يتسبب في مرحلة ما تختارها الدول الصاعدة الجديدة بانهيار الدولار الأميركي، وبالتالي إنهيار الإقتصاد الأميركي، مما سيؤدي حتماً إلى ارتفاع حدة الفوضى والجريمة فيها، وستبدأ كل ولاية في أمريكا بالبحث عن سبل تحقيق أمنها الذاتي، لأن الدولة المركزية ستكون عاجزة حتى دفع رواتب الجيش والحرس الوطني، مما سيؤدي إلى انقسامات حادة في صفوفهما. ويمكننا أن نستند في ذلك إلى تجارب عديدة في العالم، وأوروبا الشرقية ما تزال أكبر مثال على ذلك. وإذا ما ورثت الأنظمة الأميركية الصنع أوروبا الشرقية بعد انهيارها، وقام الجيش الأميركي بصناعة جيوش رديفة له فيها، فمن سيرث الجيش الأميركي؟ ومن سيرث أميركا في حال تفككها؟ وفي هذا تفاصيل!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024