آراء وتحليلات
المناطق الروسية الأربع والمحافظات السورية الأربع والعواصم الأربع!
د. علي أكرم زعيتر
قبل أيام، وقع الرئيس الروسي فلادمير بوتين رسميًّا على نتائج الاستفتاءات الشعبية التي جرت في الأقاليم الأربعة (لوغانسك، زباروجيه، وخيرسون، دونيتسك)، والتي جاءت جميعها وفق ما تشتهي سفن روسيا.
السكان هناك مواطنون أوكرانيون بروح روسيّة، أو قل مواطنون روس أُرغموا على تسربُل الأَكْرَنَة، ولكن حينما قُدِّر لهم أن يعيدوا تصحيح هوياتهم، فعلوا كل ما بوسعهم، ونجحوا في نهاية المطاف.
لم يعبأ القيصر كثيراً بجعجعات الغرب، ولا بتهويلاته، فقد سبق له وأن اختبر عبثيته المفرطة أكثر من مرة، لا سيما في العام ٢٠١٤، حينما "هاجمت" قواته جزيرة القرم، وضمتها إلى روسيا، فيما الغرب وقوته العسكرية الضاربة (الناتو) واقفان يتفرجان، كما لو أنهما يشاهدان مسرحية هزلية من مسرحيات وليام شكسبير.
يرى أهل السياسة في خطوة بوتين هذه، فاتحة لمرحلة جديدة من الصراع الدولي. بينما يرى أهل الجيوبوليتيك فيها خطوة أولى نحو عالم متعدد الأقطاب، بعدما سيطرت الأحادية القطبية على العالم ردحاً طويلاً من الزمن، ما يشي باقتراب موعد أفول الإمبراطورية الأميركية.
أما أهل الفلسفة والفكر والاستراتيجيا فيرون فيها تباشير انهيار النسق الحضاري الغربي والفكر الليبرالي، إيذاناً بتبلور نسق حضاري موازٍ، وفكر مقابل. فيما أهل الدين ينظرون إليها على أنها حلقة من حلقات الصراع الطويل بين الخير والشر.
ووحدهم أهل التاريخ يرون فيها محطة مفصلية لإعادة رسم الخارطة العالمية، بخلاف ما رست عليه عام ١٩٩١، أي عقب انتهاء الحرب الباردة بين القطبين الموازيين آنذاك، الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي من جهة، والولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الغربي من جهة أخرى.
لا يختلف اثنان على أن نهاية الحرب الباردة لم تكن في صالح الاتحاد السوفياتي، ولا في صالح وريثه الشرعي، عنينا به الاتحاد الروسي. فبعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي خسرت روسيا أجزاء واسعة من أراضيها التاريخية التي لطالما كانت تشكل امتداداً جغرافياً وسياسياً لها.
اليوم، وبعد مرور أكثر من ٣١ سنة، يجد القيصر الروسي الفرصة مؤاتية لإعادة ضم الأراضي التي سُلخت عن بلاده بالإكراه. وقد بدأ أولى خطواته في هذا الاتجاه عام ٢٠١٤، حينما استرجع جزيرة القرم من أوكرانيا وضمَّها إلى بلاده، وها هو اليوم يستكمل ما بدأه في ذلك العام.
ومن يدري لعل الدور يأتي في القادمات من السنين على تبليسي، ووارسو، وبودابست، وبوخارست، فهذه العواصم الأربع متهمة أيضًا بالتهافت على القصعة السوفياتية، وقضم أجزاء واسعة منها عقب تفكك الاتحاد السوفياتي قبل ٣١ سنة، شأنها شأن أوكرانيا.
جارات روسيا اللواتي هنَّ شقيقاتها في نفس الوقت، متهمات جميعهنَّ بالتكالب عليها عقب المحنة التي ألمت بها، بعد انهيار جدار برلين، عام ١٩٩١، فهل يستوفي القيصر منهنَّ القصاص، كما فعل بشقيقتهنَّ الجامحة أوكرانيا؟ لا أحد يدري بما يدور في خلد القيصر! ربما يفعل ذلك!
في المشرق العربي، لطالما حُكي عن قصة مشابهة لقصة روسيا وشقيقاتها، قصة جرت فصولها قبل نحو مئة عام من اليوم، ضحيتها سوريا، والجاني الغرب، وهو نفسه غريم روسيا الذي حرص على نهش أكبر قدر ممكن من أراضيها وتوزيعها على شقيقاتها السلافيات على حين ضعف.
من يتمعن في الحروف العربية التي يتكون منها اسم روسيا، يكتشف أنها الحروف ذاتها التي يتشكل منها اسم سوريا، ولكن مع اختلاف طفيف في الترتيب، فهل هي لعنة الاسم التي جعلت روسيا وسوريا تواجهان مصيرًا مشتركًا، وعلى يد نفس الجاني، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد صدفة؟
بالطبع، نحن لسنا جديين في طرح السؤال، وبالتالي لا يُتوقع منا أن نتتظر جوابًا من أحد! جل ما نود قوله هو أن هناك تشابهًا كبيرًا بين مأساة سوريا ومأساة روسيا، دعونا نستعرض بعض عناصرها سويًا:
1 - تشابه الاسم مع اختلاف طفيف في ترتيب الحروف.
2 - الجاني هو نفسه (الغرب).
3 - المشارِكات في الجناية هنَّ شقيقات روسيا وسوريا.
4 - معضلة الرقم أربعة، فهناك أربع عواصم سلافية تتحسَّس رقابها، وهناك أربع مناطق جرى ضمها إلى روسيا بالأمس، بعدما كانت قد سلخت عنها عام ١٩٩١، يقابلها أربع محافظات (بيروت، الشمال، البقاع، الجنوب) كانت قد سلخت عن سوريا، وألحقت بجبل لبنان، تحت مسمى دولة لبنان الكبير، بعدما تلقى البطريرك الماروني إلياس الحويك وعداً بذلك من رئيس الحكومة الفرنسية كليمنصو عام 1919.
٥ ـ حتى التواريخ، نلاحظ أنها متقاربة للغاية، مع فارق طفيف في الترتيب، (١٩١٩ ـ ١٩٩١).
يبدو واضحًا، أن تفاصيل القصتين متشابهة للغاية، فهل تكون النهاية متشابهة أيضًا؟
لكي نجيب عن هذا السؤال، علينا أن نعلم أولًّا، أن الخيارات المصيرية ليس بوسع أحد تحديدها، ما لم يكن يمتلك القوة العسكرية الكافية، أو ما لم يكن يؤمن بفلسفة القوة.
التمني والتنظير لا يقدمان ولا يؤخران في قضايا من هذا النوع، فنظريات المفكر الروسي الشهير الذي تعرفنا عليه مؤخرًا عن كثب، عقب مصرع ابنته (ألكسندر دوغين)، والذي يعد الملهم الفكري لبوتين ـ على أهميتها ـ ما كان ليتحقق منها شيء على أرض الواقع، لولا قدرات روسيا العسكرية.
سوريا التي تعاني الأمرين بفعل سنوات الحرب المفروضة عليها، والتي تتناهشها شقيقاتها الجارات وغير الجارات، وجاراتها الشقيقات وغير الشقيقات، أبعد ما تكون اليوم عن استرجاع محافظاتها الأربع، فهل وصلت الرسالة؟
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024