آراء وتحليلات
خريف الغضب الدولي وتساقط أوراق التبعية
إيهاب شوقي
بات من الواضح مع تطور المعارك في أوكرانيا، أن الحرب الحقيقية هي حرب بين روسيا وأمريكا وحلفها الغربي، وإن كانت بشكل غير مباشر، وهو ما يعني أن أوكرانيا واجهة ومجرد ساحة لهذه المعركة.
وهنا ينبغي التأكيد على عدة ملاحظات رئيسية:
1ـ أوكرانيا تحولت إلى رقعة شطرنج كبرى والمباراة التي تُلعب عليها ليست مجرد معارك جيو ـ سياسية، بل هي معارك جيو ـ استراتيجية بلحاظ تواجد "الناتو" على حدودها ومفاعلات الطاقة النووية ومعابر الغذاء الدولية، وبالتالي تتحدد بها معالم النظام العالمي الجديد.
2ـ ألمحت روسيا إلى معركة أيديولوجية، وهي بذرة لتشكيل نموذج أيديولوجي للقوى الصاعدة في مواجهة الحلف الانجلوساكسوني، حيث صرح الرئيس الروسي فلاديميير بوتين بأنه يصارع في معركة اخلاقية لحفظ قيم الأسرة والفطرة الإنسانية في مواجهة الانحلال القيمي الغربي، وهو ما ألمح إليه الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، عندما طالب كل القوى المحافظة والمتدينة بمناصرة روسيا في معركتها ضد النظام العالمي الليبرالي الساعي لهدم القيم التقليدية والحضارية.
وبالتالي فإن التوجه نحو أيديولوجية للقوى المناهضة لأمريكا هي مؤشر على عدم التراجع، والوصول بالصراع إلى مراحله النهائية والتي يشكل وجود نظام متعدد الأقطاب حدها الأدنى.
3ـ من الواضح أنه لا توجد رغبة لدى جميع الأطراف لنشوب حرب عالمية كبرى ومواجهة مباشرة بين روسيا وأمريكا و"الناتو"، ولكن من الواضح أيضا أن جميع الأطراف تتخذ قرارًا بعدم التراجع، وهو ما يعني أن احتمالات الانزلاقات واردة ومحتملة.
وعلى مستوى الإقليم، فإنه مع تصاعد حدة المواجهة، فإن الاصطفافات تزداد وضوحا، وتضيق هوامش التأرجح ومحاولات الموازنة واللعب على جميع الحبال، وباتت جميع الأطراف مطالبة بالاصطفاف، فلو كان عدم الانحياز ممكنا في مراحل الحرب الباردة، فإنه شبه مستحيل في مرحلة المواجهات ومرحلة تشكيل النظام العالمي الجديد، لأن الأطراف المتصارعة لن تسمح بهذه الهوامش حيث تحتاج لكل مساندة مهما صغرت في لحظات عالمية حرجة، وهو ما يرجح نشوء تحالفات جديدة بمستويات أعمق، وفك تحالفات سابقة، والتخلي عن مواءمات حكمت فترة الهدوء والحرب الصامتة.
هنا نجد أن الفجوة بين العدو الإسرائيلي وبين روسيا تزداد، حيث يتعمق اعلان اصطفافه مع معسكر الغرب يوما بعد يوم، ونجد أن إيران يزداد تحالفها موثوقية مع روسيا تحت وطأة الحرب المشتركة التي تعلنها أمريكا عليهما، والصين تزداد احتماليات انخراطها المباشر والتخلي عن حالة الهدوء والحذر الراهنة رغم الاستفزازات الأمريكية لها في تايوان.
باختصار نحن أمام مسار تدريجي للتصعيد الدولي، يقبع في مكان ما بين الحرب العالمية الكبرى وبين احتمالات التسوية والاعتراف المتبادل بحدود القوى وموازينها، وما يترتب عليها من خرائط جديدة للطاقة والاقتصاد والتواجد العسكري، وما يحمله ذلك من تحديثات على مصائر الملفات الدولية المعلقة ومنها بلا شك قضايا المنطقة ومستقبل الكيان الصهيوني المؤقت.
ولا شك أن هناك ظواهر مقلقة حدثت تنذر بنشوب أحداث مماثلة وذات تداعيات خطيرة، مثل انفجار خط "نورد ستريم"، وهو ما يدشن مسارا لتتبع المصالح العابرة للحدود واستهدافها، وهو ما ينذر بردود عابرة للحدود لمسارات الطاقة الغربية، وتفاقم للأزمات الدولية، وليست مسارات تصدير الطاقة الصهيونية لأوروبا ببعيدة عن ذلك، وليست خطوط نفط وطاقة الخليج أيضا ببعيدة، وهو ما يعني أن هناك حربا مفتوحة دولية قيد الاندلاع.
كما أن هناك مؤشرات على تغييرات دراماتيكية بمجلس الأمن والأمم المتحدة، بعد أن انقلب السحر على الساحر، وباتت المنظمة التي أنشئت لشرعنة عدوان الغرب وحمايته، عاجزة عن ردع القوى المناهضة للهيمنة وعاجزة عن حماية الهيمنة من الانتفاضة الروسية، وهو ما تم التلميح معه على استحياء إلى محاولات لتغيير هذا الوضع، ولا يمنع ذلك الا افتقاد البدائل وخطورة العبث بمنظمة وهيئات تنظم النظام العالمي وتقطع الطريق على حرب عالمية، ولكننا بصدد البدء في محاولات لهذا العبث.
يبقى في وضع كهذا، أن نتفهم أن قوى المقاومة مستنفرة وماضية في طريقها وأن ما يتحقق عمليا يثبت صحة خيار المقاومة واعتماد القوة كوسيلة وحيدة لمناهضة الهيمنة التي لا تفهم لغة غيرها، وربما يبقى مفهوما اصطفاف بعض القوى والانظمة مع الغرب لارتباطات مصيرية به، أما غير المفهوم، فهو استمرارية البعض في التبعية والتأرجح دون ضمانات حتى من حلفائهم الغربيين والأمريكيين، وخاصة وهم يشاهدون أوكرانيا تستنجد بامريكا و"الناتو" لضمها وهم يتهربون من ذلك ويلقونها وحيدة بعد ان التغرير بها لمواجهة المد الروسي وأمواجه العاتية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024