آراء وتحليلات
عن الملكة والاستعمار الوحشي وجواهر افريقيا المنهوبة
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
في أعقاب رحيل الملكة إليزابيث الثانية أصبحت الدعاية والخيال وحتى الجهل، تتعارض مع السجل التاريخي لبريطانيا والتجربة الحية للأفارقة والآسيويين وشعوب الشرق الأوسط والأيرلنديين وغيرهم ممن اكتووا بنار الاستعمار الانكليزي البغيض.
ففي خيال الشمال العالمي، كان ينظر الى الملكة بأنها رمز للياقة والاستقرار في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن بالنسبة لسكان الأماكن التي غزتها بريطانيا وقسمتها واستعمرتها وقهرت شعوبها على مدى قرون، فإن الجدة البالغة من العمر 96 عاما ـ وبقية أفراد العائلة المالكة ـ تثير مشاعر معقدة ومختطلة من السخط والغضب المكتوم خصوصًا في القارة، نتيجة القهر والقتل والاعتقال والاغتصاب والعبودية التي تعرض لها أهلها على يد تلك الامبراطورية الوحشية، على أقل تقدير.
كيف هي صورة الملكة اليزابيث الثانية لدى الأفارقة؟
أعاد موت الملكة إليزابيث الثانية إحياء نوع مختلف من النقاش الذي تطرق إلى إرث الإمبراطورية البريطانية، والوحشية التي مارسها النظام الملكي على الناس في مستعمراتها السابقة، حيث يعتبر الكثير من سكان القارة السوداء أن البريطانيين مذنبين بارتكاب جرائم تاريخية للأمة. مع أن البعض من جيل الشباب الأفارقة الذين نشأوا في عالم ما بعد الاستعمار، أعربوا عن أسفهم، لأن الملكة لم تواجه أبدًا آثار الاستعمار والإمبراطورية القاتمة، ولم تصدر اعتذارا رسميًا لهم.
لذا، ما يريده جيل الشباب الافريقي المتحرر حاليًا هو استغلال هذه اللحظة، لتذكر القمع والأهوال التي عانى منها آباؤهم وأجدادهم باسم التاج، والحث على إعادة جواهر التاج ـ الماس الضخم النادر ـ المأخوذ من القارة.
كيف اشتعل الجدل حول الموقف من الملكة؟
في الواقع، انتشر الجدل حول الكيفية التي يجب أن ينظر فيها الأفارقة إلى الملكة، عندما نشرت "أوجو أنيا" المولودة في نيجيريا، والأستاذة بجامعة كارنيغي ميلون، تغريدة تمنت فيها للملكة "ألمًا مبرحًا" على فراش الموت لاشرافها على إمبراطورية "لصوص واغتصاب وإبادة الجماعية". وهذه التغريدة لا ينبغي أن تكون مفاجئة لأي شخص شهد معاناةً وأهوالًا كبيرة مع الكثير من العائلات النيجيرية، مثل عائلة أنيا، التي عانت من المذابح والنزوح على أيدي البريطانيين.
لم يقتصر هذا الموقف على "أنيا" وحدها بل أمثالها كثر، فعلى الخطى نفسها سارت احدى المحاميات في العاصمة الكينية نيروبي، وتدعى أليس موغو (34 عاما) حيث قالت إن هناك جانبًا مظلمًا للنظام الملكي "وبالنسبة لنا تجاهل الجانب القبيح والقاسي، أمر غير (لائق).
وبالمثل، فإن مشاعر السخط على الملكة اليزابيث، وردت ايضًا على لسان حزب سياسي في جنوب أفريقيا يدعى "مقاتلو الحرية الاقتصادية"، كان قد أكد في بيان أنه "لن ينعي الملكة، لأن وفاتها بالنسبة لنا هي تذكير بفترة مأساوية للغاية في هذا البلد وتاريخ أفريقيا".
وكتب مقاتلو الحرية هؤلاء، أن الملكة كانت "رئيسة مؤسسة تم بناؤها وعاشت على إرث وحشي من تجريد الملايين من الناس من إنسانيتهم في جميع أنحاء العالم".
هل كانت الملكة محايدة فعلًا تجاه أفعال حكوماتها المتعاقبة؟
عندما اعتلت إليزابيث العرش في عام 1952، ورثت بريطانيا كقوة عالمية ضعيفة السيطرة والنفوذ. حينها كانت الثورات تتجمع في مستعمراتها، كما ان الاستنزاف الاقتصادي الناجم عن الصراعات، إلى جانب تنامي حركات الاستقلال في إفريقيا والهند، كلها عوامل وأسباب، أجبرت بريطانيا على الانسحاب من تلك المستعمرات.
ومع ذلك، حتى في ذلك الوقت، لم تدع بريطانيا تحت حكم إليزابيث مستعمراتها الثمينة تذهب بسهولة، بل أراقت أنهارًا من الدماء في سبيل الحفاظ عليها بالقوة. فعندما كانت إليزابيث الثانية في جولة رسمية في كينيا عام 1952، علمت بوفاة والدها وأنها ستصبح ملكة، وبعد أشهر قليلة من اعتلاء الملكة العرش، بدأت حملة القمع بحق الكينيين.
ومن عام 1952 إلى عام 1963، سحقت القوات البريطانية تمرد ماو ماو في كينيا، مما أجبر ما بين 160،000 و320،000 كينيا على الدخول إلى معسكرات الاعتقال، إضافة الى تعذيب واغتصاب وإخصاء وقتل عشرات الآلاف من الأشخاص. وحتى يومنا هذا، ما زالت دعاوى القبائل الكينية قائمة ضد الحكومة البريطانية في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بتهمة سرقة الأراضي والتعذيب.
هل أن توصيفها كـ"رمز" يعفيها من مسؤولية ما ارتكبته نظامها؟
تولت إليزابيث عن طيب خاطر دور تمثيل السلطة والثروة البريطانية، وزينت نفسها بملء ارادتها، بالجواهر المنهوبة من المستعمرات السابقة.
علاوة على ذلك، طبعت صورتها على عملات العديد من المستعمرات السابقة. ومن خلال إدارة الكومنولث البريطاني، وتولت عن طيب خاطر أيضًا، الدور الرمزي الراعي لـ"الأم البيضاء" للشعوب المقهورة في الإمبراطورية السابقة.
ليس هذا فحسب، تُتَداوَل في بريطانيا أخبار تقول إنه تم منع "المهاجرين الملونين أو الأجانب" من الخدمة في الأدوار الدينية الملكية حتى الستينيات.
أما الأكثر أهمية وما يجهله كثر في العالم، أن بريطانيا أرادت عمدًا إخفاء جرائمها عن الدول المستقلة حديثًا. ففي عام 1961، دمّرت الآلاف من وثائق الحقبة الاستعمارية حتى لا "تحرج حكومة صاحبة الجلالة".
ومع ذلك، لم تحجب محاولات تلميع صفحة بريطانيا، وصمة العار التي لا تزال تلاحقها، بسبب الفظائع والجرائم التي ارتكبتها بعد عدة سنوات من استقلال نيجيريا في عام 1960 (وتحت أنظار الملكة)، بعدما وقفت بريطانيا إلى جانب القوات النيجيرية لسحق جهود انفصال بيافران. في تلك الفترة، قُتل حوالي مليون شخص من قبيلة الإيبو العرقية أو جُوِّعوا حتى الموت.
وعليه، فإن صور العلاقات العامة لجدّة مسنّة تكرّس اهتمامها لكلابها، وإضفاء الطابع الهوليودي على العائلة المالكة، تهدف الى تخفيف الشكوك والأسئلة حول دورها، لكنها لا تخفي حقيقة انه ينطيق عليها قول سيد البلاغة الامام علي (ع) "الرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ".
ماذا عن جواهر تاج الملكة المسروقة؟
امتد الجدل بعد موت الملكة إلى تاجها المرصّع بالمجوهرات الثمينة والنادرة. ولهذه الغاية طالب حشد من شباب جنوب إفريقيا بإعادة الألماس الذي يشكل جزءًا من جواهر التاج.
تم قطع الأحجار الكريمة النادرة من Cullinan التي تعتبر أكبر ماسة تم اكتشافها في جنوب إفريقيا عام 1905، وهي توضع فوق تاج ملكة الدولة والصولجان السيادي، وكلاهما يستخدم أثناء تتويج العاهل البريطاني.
بررت بريطانيا الأمر بأن الماسة، هي هدية من الحكومة الأفريقانية إلى الملك إدوارد السابع بعد حرب جنوب أفريقيا، والمعروفة أيضا باسم الحرب الأنجلو ـ بوير.
بالمقابل، فإن السكان والنخب السود في جنوب أفريقيا، شككوا في حق حكومة الأقلية البيضاء (في تلك الفترة) في منح جوهرة كُشف عنها خلال فترة الاستغلال الوحشي للسود كهدية. والأنكى انه في عيد ميلادها الـ 21 في عام 1947، ألقت الملكة خطابا من كيب تاون المعزولة متعهدة بخدمتها للكومنولث.
وبناء على ذلك، يعتقد هؤلاء الشباب، أن "هناك خداعّا في مقولة إن الملكة أو العائلة المالكة الحالية لا علاقة لها بالماضي، وفي الوقت نفسه ما زالوا يرتدون هذه المجوهرات المسروقة بسعادة".
ولهذا يقول المراقبون بعد رحيل الملكة إن النقاش والجدل حول تصرفات الإمبراطورية السابقة في أفريقيا، سيستمر في اكتساب الزخم.
في المحصلة، إن تصوير الملكة إليزابيث - والإمبراطورية البريطانية المتلاشية - على أنها كانت على خطى القديسين، يحجب الحقيقة ليس فقط عن بريطانيا ولكن أيضًا عن نظامنا العالمي الحالي، المبني على هذا التاريخ المليئ بالجرائم، من هنا لا بد من كشف حقيقة هذا التاريخ المظلم لبريطانيا ونظامها الملكي، وتسليط الضوء على الآثار الحالية للإمبراطورية العنصرية الاستعمارية التي مثلتها الملكة بإخلاص، ولم يرف لها جفن، حتى عندما ارتكبت بريطانيا جريمة العصر المتمثلة بتقديم فلسطين للصهاينة المغتصبين.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024