آراء وتحليلات
بين المصرف والمودع.. إشكالية القانون أم الحق
هاني ابراهيم
شهد لبنان ومنذ ما يقرب الثلاث سنوات تراجعا شديدا للثقة في العلاقة ما بين المصرف والمودع، وهو عموما ذلك اللبناني الذي امضى معظم سنوات حياته سواء داخل لبنان او في الاغتراب يعمل لتامين مستقبل لائق له ولعائلته، وقام بالاستثمار في بلده، وإيداع أمواله في المصارف اللبنانية، هذا فضلا عن المتقاعدين الذين أودعوا تعب عمرهم في المصرف عله يحفظهم من غدر الايام والسنين.
وضع الانهيار الذي أصاب لبنان اقتصاديا وماليا ونقديا، والاجراءات المفاجئة التي اتخذتها المصارف سواء من خلال تعاميم رياض سلامة من جهة او لتدابير داخلية خاصة بالمصارف وضعتها جمعية المصارف موضع التنفيذ من جهة ثانية، وضع المودع اللبناني أمام حائط مسدود حرم من خلاله التصرف بأمواله، وصولا لحقه البديهي باستعمالها للاستشفاء، ضاربين بذلك عرض حائط بكل الشرائع الانسانية والقوانين الوضعية التي تبيح لصاحب الحق التصرف بحقه كيفما يشاء من سحب وإيداع وتحويل وكل ما يتعلق بالعمليات المصرفية.
كل ذلك أخذ المودع إلى مكان لا يريده بعد ان أفقدته تصرفات المصرف المركزي والمصارف من جهة، وتقاعس الدولة والقضاء من جهة أخرى صوابه، فلم يجد في نهاية المطاف الا الوسيلة المتبقاة وهي المطالبة بحقه ولو بالقوة.
تجاه هذا الوضع، ذهب البعض إلى القول ان ما يقوم به المودع هو أمر طبيعي للرد على ما تقوم به المصارف من حرمان الناس من أموالها حتى للاستشفاء، وهو امر نتفهمه بالنظر للعاطفة الوجدانية التي تجمع أغلبية الناس في أوضاع مشابهة، فيما ذهب البعض الآخر إلى القول إن على المودع، وبالرغم من حقه الواضح والصريح، اللجوء إلى القضاء الذي يعتبر الملجأ الطبيعي في هذه الامور.
أكثر من أشكالية طرحت بالنظر لما يحصل بين الفينة والاخرى، من ردات فعل على المصارف لاستيفاء الحق جبراً، فماذا يقول القانون في ذلك؟
إن مقاربة هذا الملف تفرض علينا البدء من نقطة أن هناك قضية بين الطرفين، حق للمواطن، وتقاعس من قبل المصرف ـ متذرعاً بتعاميم لا قيمة قانونية لها ـ والفيصل في هذه العلاقة هو القضاء. فماذا يحصل؟
أي دولة في العالم تتغنى بالقانون والمؤسسات، وبأن دولة القانون ضمانة لجميع أفرادها، يفترض ان تقوم بخطوات توحي بذلك، من هذه الخطوات مثلاً، انه لا بد من محاسبة المصارف على تقاعسها، ولأن تصرفاتها وما تقوم به من منع الناس من حقوقها، لا يمر دون محاسبة، وهذه قاعدة حتمية لا يمكن تجاوزها.
ان النظرة البديهية للعلاقة بين المصرف والمودع تفرض من الناحية القانونية قاعدتين ملزمتين للمصارف، وهما كالتالي:
القاعدة الأولى: أن المصارف، بما تمثل من جهة مالية ذات شخصية معنوية مستقلة، مؤتمنة بشكل واضح وأساسي على حقوق الزبون ومصالحه.
القاعدة الثانية: أن المصارف، وفيما خص الوديعة الخاصة بالزبون، ملزمة بتنفيذ ما يطلبه المودع في هذا الاطار طبعا وفق القوانين والأنظمة المرعية الإجراء.
قاعدتان مهمتان، ولكن ماذا بخصوص التعاميم؟!
ان ما يصدر من تعاميم، سواء عن المصرف المركزي، او جمعية المصارف، او اي جهة مصرفية اخرى، فإنها شأن مصرفي بحت، وغير ملزم لا للمودع، ولا للقضاء بطبيعة الحال. كيف ذلك؟!
ـ حق المودع يبقى كاملاً باسترداد ما أودعه في المصرف متى يريد، طبعا في حال عدم وجود مانع قانوني يوجب المنع ويبرر للمصرف هذا التصرف. لكن ماذا عن القضاء في هذه الحالة ؟
المعروف نصاً و فقهاً واجتهاداً، ان القضاء لا يلتزم الا بالنص القانوني، وأنه واستناداً للمادة 4 من قانون أصول المحاكمات المدنية، الفقرة 4، فإن القاضي، وعند انتفاء النص، يعتمد المبادئ العامة والانصاف "لا أكثر ولا أقل". لذا، فان التعاميم المصرفية ليست قانوناً، وليست قوة قاهرة بمعنى أنها تجعل من تنفيذ هذا الموجب مستحيلاً، وبالتالي هي غير ملزمة للقاضي وللقضاء، وعليه، يبقى المصرف مسؤولاً، ولا يعفى من موجب تلبية طلبات المودع، والا عُدّ متخلفاً ولا يتمتع بالملاءة ما يعني انه مفلس.
بالاستناد الى ما ذكرناه أعلاه، كانت هناك محاولات عديدة اثبت من خلالها القضاء، وعدد لا يستهان بهم من القضاة، انهم ما زالوا موجودين لإحقاق الحق من قضاة تنفيذ وعجلة وغيرهم، والكثير من إجراءات قضاء الأمور المستعجلة في حماية حقوق المودعين ورفضاً للحجج الواهية التي تطلقها المصارف كالوضع الاقتصادي المتأزم، ومحافظتها على القطاع المصرفي وحمايته من الانهيار ووجود تعاميم مصرفية.
وفي هذا الاطار صدرت أحكام عن قضاء العجلة أدانت الإجراءات المصرفية، فقضى في القرار الأول الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في النبطية أساس 558 لسنة 2019 رقم 93 بإلزام المصرف المدعى عليه "بتنفيذ موجباته ودفع قيمة الحساب العائد للمدعين فوراً دون تأخير تحت طائلة غرامة إكراهية مقدارها 20 مليون ل.ل. عن كل يوم تأخير، وذلك نقداً ووفق الوسيلة التي ترتضيها الدائنة المستدعية ". وقد صدرت مجموعة من القرارات المتشابهة في هذا المجال .
لكن ثمة سؤال يتبادر إلى أذهان العديد من المتابعين، ماذا عن تنفيذ هذه القرارات؟ ولو نفذت هذه القرارات هل كنا شهدنا هذه المحاولات من دخول للمصارف من قبل المودعين وأصحاب الحقوق عنوة للمطالبة بحقوقهم الطبيعية؟
للأسف، لم تذهب معظم هذه القرارات الجريئة إلى التنفيذ، أو أنها ذهبت، لكنها لم تجد طريقها للنهاية لاعتبارات عديدة، ليست موضع مقالتنا هذه. كل ذلك دفع بالمودع لاخذ حقه بنفسه، ولكن، ماذا يقول القانون عن هذا الامر؟ والاهم هل يجب ان نلتفت للقانون في هذا الإطار؟ ولماذا لم تنظر المصارف إلى القانون عندما منعت الناس عن أموالها، وبدأت التقنين كما يحلو لها دون حسيب او رقيب؟ ولماذا لم تظهر جدية القضاء في ملاحقة المصارف كمنظومة مسؤولة عن كل ما يصيب هذا القطاع؟!
افرد قانون العقوبات اللبناني في جزء من مواده نصوصا تتعلق بالأفعال المؤدية إلى استيفاء الحق بالذات، وتجريمها، ومنها على سبيل المثال، المادة 924 والتي أشارت إلى أن «من أقدم على استيفاء لحقه بالذات وهو قادر على مراجعة السلطة ذات الصلاحية بنزع مال في حيازة الغير أو استعمال العنف بالأشياء فأضر بها، عوقب بغرامة لا تجاوز 200 ألف ليرة».
فيما ذهبت المادة 430 من القانون نفسه الى أنه «اذا اقترف الفعل المذكور في المادة السابقة بواسطة العنف على الأشخاص أو باللجوء الى اكراه معنوي عوقب الفاعل بالحبس ستة أشهر على الأكثر، فضلاً عن الغرامة المحددة أعلاه. وتكون العقوبة الحبس من ثلاثة أشهر الى سنتين اذا استعمل العنف أو الاكراه شخص مسلح أو جماعة من ثلاثة أشخاص أو أكثر ولو غير مسلحين».
إذًا من الواضح أن قانون العقوبات جرم الأفعال التي تؤدي إلى استيفاء الحق بالذات والقوة، ولكن وللأسف لم يلحظ في هذا الاطار ما إذا كان هذا الحق عائداً لمن قام بالاستيفاء، فكان ذلك من نصيب قانون الموجبات والعقود الذي نص على القيام بمجموعة من الاجراءات تحت مسميات مختلفة منها حق الحبس (المنع) لحين الحصول على الحق، وهو أمر آخر يختلف عن موضوع مقالتنا .
الا انه وبالرغم من ذلك كله فإن عناصر "جريمة" استيفاء الحق بالذات لحظت عدداً من النقاط يفترض توافرها لاعتبار ما يحصل استيفاء للحق ومنها:
1-أن يكون المجرم صاحب الحق الذي يستوفيه.
2- أن يستوفي هذا الحق بالذات، اذا كان في حيازة الغير أو استعمل العنف وأضرّ بالأشياء.
3- أن يكون بإمكانه مراجعة السلطة المختصة للوصول الى حقه، فلم يلجأ اليها بل استوفاه بالذات.
وهنا لا سيما في البند الثالث نعود الى النقطة الاولى وهي مراجعة القضاء وهو لا حول له ولا قوة سوى اصدار الاحكام .
ولكن ماذا عن عقوبة جريمة استيفاء الحق بالذات بالمعنى القانوني البحت؟ يجد الباحث أن عقوبة هذه الجريمة، وبحسب القانون اللبناني، هي الغرامة 200 الف ليرة لبنانية على الأكثر، إذا كان الفعل الجرمي مقتصراً على نزع مال في حيازة الغير أو استعمال العنف بالأشياء والاضرار بها كما ذكرنا سابقاً. (ولكن النقطة التي لا بد من الاشارة اليها ان هذا المال الذي بحوزة الغير هي أمواله الخاصة)، وهو عنصر اساسي لتوافر جريمة استيفاء الحق. أما اذا كان الفعل الجرمي قد ارتكب بواسطة العنف على الأشخاص أو باللجوء الى اكراه معنوي (كالتهديد بالضرب)، فتكون العقوبة هي الحبس 6 أشهر على الأكثر، بالاضافة الى الغرامة 200 الف ليرة لبنانية على الأكثر.
وعندما ترتكب جريمة استيفاء الحق بالذات بواسطة استبدال العنف والاكراه من قبل شخص مسلح أو جماعة من ثلاثة أشخاص أو أكثر ولو غير مسلحين، تكون العقوبة هي الحبس من 3 أشهر الى سنتين.
إذًا الوضع اصبح واضحاً، إما اللجوء الى القضاء وإما تحمل تبعات استيفاء الحق بالقوة وفقا للقانون اللبناني، لكن ما هو الحل وفق الوضع الراهن في لبنان؟
بات من المؤكد أن الامر بيد الدولة كمؤسسات تلتزم بالقانون، فواجبها ان تلزم المصارف والمؤسسات المالية بالقانون، وتعيد للناس أموالها ولتبدأ المعالجة من هنا، والكل على ثقة بانه لن يكون هناك اي تعدٍّ على اي مصرف، فالجرم ابتدأ من تلك المؤسسات التي ضربت عرض الحائط بكل ما هو قانون وانظمة، وقامت بحجز الأموال عن اصحابها، لا بل اكثر قامت باقتطاع ما لذ لها وما طاب من راس المال، عن طريق إصدار تعاميم وقرارات أطاحت بأموال الناس وحقوقهم كما وبالبلد وما فيه فكانت مصداقاً للاية الكريمة ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ).
مصرف لبنانجمعية المصارفأموال المودعين
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024