آراء وتحليلات
مراكز الدراسات في الغرب ودورها في صناعة القرارات السياسية
عبير بسام
تعتمد الولايات المتحدة في تحديد قراراتها على ما يعرف بـ"اللجنة الاستشارية لمجلس سياسة الدفاع"، وهي لجنة تنتمي للقطاع الخاص وتعتمد كلجنة استشارية للبنتاغون. وقد لعبت دوراً فعالاً في رسم سياسات جورج بوش الابن. ومعظم المتواجدين في مجلس إدارة اللجنة ومنهم ريتشارد بيرل وواضعو تقرير "القطع النظيف"، هم على علاقة متينة بوسطاء تجار السلاح في أميركا، والذي يقومون ببيع السلاح الأميركي للجيش الأميركي والعالم. ويبدو أن هذه اللجنة تلعب اليوم دوراً هاماً في العلاقة مع الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، الذي لعب بنفسه هذا الدور حينما دفع بالسعودية وقطر والعديد من دول الخليج لشراء السلاح الأميركي.
عند انطلاق الحرب على العراق عام 2003، كان الجميع، تقريباً، قد قرأ يومها ما عرف بتقرير بيرل، وفهم دوره في توجيه سياسة إدارة جورج بوش الابن منذ بداية تسلمه الحكم في العام 2001 نحو إعلان الحرب على العراق. ولم تؤثر هجمات 11 أيلول/ سبتمبر من نفس العام على قرار بوش الابن حول احتلال العراق، الذي تم تأجيله حتى العام 2003. أي أن القرار بالنسبة لبوش الابن كان قراراً استراتيجياً مرتبطاً بالوعود التي قطعها من أجل وصوله إلى سدة الحكم. وهذا القرار ارتبط مباشرة بتقرير بيرل وعنوانه " القطع النظيف: استراتيجية جديدة لتأمين العالم". وضع التقرير آنذاك "معهد الدراسات السياسية الاستراتيجة والسياسية المتقدمة" في العام 1997، وأعده عدد من الخبراء الصهاينة المتشددين ومنهم ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث. لم تنتهِ تداعيات التقرير الذي ربط احتلال العراق بسلسلة من زعزعة الاستقرار في كل من سوريا والعراق وإيران والسعودية حتى اليوم. مع العلم أن بيرل حاول تمرير مشروع غزو العراق خلال إدارة كلينتون، ولكنه لم ينجح.
مراكز الدراسات في الغرب تؤدي دوراً هاماً في صناعة القرار، ولنأخذ على سبيل المثال المعهد الديمقراطي الوطني، الذي تنتشر فروعه في حوالي 140 دولة حول العالم. يتألف مجلس إدارته من مجموعة من السياسيين الديمقراطيين الحاليين والسابقين ومنهم على سبيل المثال مادلين اولبريت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في عهد الرئيس كلينتون. يحدد المعهد السياسات التي ستنتهجها الحكومات الديمقراطية القادمة، مع أنه ليس مركزاً حكومياً، بل هو مركز دراسات مستقل. ويخرج المعهد القيادات السياسية التي ستعمل تحت جناح الحزب الديمقراطي في الحكومات الأميركية من وزراء وسفراء وما إلى ذلك. والأمر ذاته ينطبق على المعهد الدولي الجمهوري، الذي يرأسه لورن كرانير، الذي عمل كمساعد لوزير الخارجية الأميركي كولن باول، ورئيس مجلس إدارته السيناتور جون ماكين، ويديره عدد من السياسيين المعروفين والأعضاء ومعظمهم من رواد الحرب على العراق.
كما يمول المعهد الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وهي تابعة لوزارة الخارجية الأميركية وجزء آخر يؤمنه الكونغرس، أي أنها دائرة مغلقة. وهي نفس الدوائر التي نظمت ومولت التحركات في العالم العربي كما يقول موقع "إيلاف"، وغيره من المواقع. وما ينطبق على هذين المعهدين، ينطبق على العديد من المعاهد ومراكز الدراسات التابعة للأحزاب الحاكمة في العالم الغربي والتي تحدد سياساتها. هذا مع العلم، أن كلاً من المعهد الجمهوري والديمقراطي يعدان منظمتين غير حكوميتين ولا تبغيان الربح ولا تنتميان لأية تيارات حزبية أو سياسية. وتعتمد الأحزاب المتنافسه في الغرب في تقرير برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمراحل القادمة على مراكز للدراسات ترتبط بها بشكل مباشر والتي تقدم النصائح لقياداتها، بعد قراءة منهجية لحاجات دولها والأوضاع الاقتصادية والأمنية للدول حول العالم.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، انتقل مركز قيادة السياسات العالمية من أوروبا إلى الولايات المتحدة مما جعله مركز ثقل علمي واستراتيجي واقتصادي كبير في العالم، وذلك بسبب القدرة الاقتصادية الكبيرة التي تتمتع بها، وهجرة أعداد كبيرة من العلماء إليها. فمعظم القراءات التي تنتجها مراكز الدراسات ارتبطت بشكل مباشر بالخطط الأميركية الموضوعة في خدمة الحكومات المتعاقبة. وفي الحقيقة، وبعد الحرب الأميركية على العراق، ومعاقبة الولايات المتحدة للدول التي وقفت ضد الحرب، مثل فرنسا، بمنعها من الاستفادة من الاستثمارات في العراق، راجع الكثير منها مواقفه حول معارضة السياسات الأميركية، خاصة تلك التي تصب في مصلحة الكيان الصهيوني.
واليوم، الأمر نفسه ينطبق على التعاضد الأوروبي ـ الأميركي حول سوريا، لناحية إعادة إعمارها، أو لناحية إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. هذه المجموعة المتعاضدة ما تزال حتى اليوم تسير في نفس الخطى. تحمل معاهد الدراسات في تقاريرها التوصيات للحكومات القادمة من أجل توجيه سياساتها المستقبلية من خلال الدراسات التي تقوم بها في مراكزها حول العالم. وتهتم أبحاث هذه المعاهد بمواضيع حساسة: مثل المواطنة والانخراط في الحياة السياسية ووضع خطط تدريس التاريخ في المدارس محلياً وحول العالم. وعلى سبيل المثال، يضع "معهد واشنطن" شعار عمله بوضوح على صفحته الإلكترونية وهو: "جلب المعرفة من أجل التأثير على صنع السياسات الأميركية في هذه المنطقة الحيوية من العالم [أي الشرق الأوسط]...مهمتنا". ومن أهم كتّابه مايكل آيزنشتات، وهو صهيوني، وكان مديراً لبرنامج الدراسات العسكرية والأمنية في المعهد، وهو ضابط سابق شارك في الحرب على العراق، وهو اليوم مدير فرع المعهد في تركيا.
منذ العام الماضي، بدأ العالم يقرأ نتائج انتصارات الجيش السوري وحلفائه في تحرير الأرض من الإرهابيين، مما سيؤذن ببدء عملية الإعمار فيها. فشرع "خبراء" مراكز الدراسات حول العالم بالتحذير من عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، طارحين مبررات تهويلية: منها الخوف على حياتهم من النظام السوري لأن الحرب لم تنتهِ بعد، وعدم أمان مدنهم وقراهم، وأن فكر "داعش" ما زال قائماً فيها.
وتكشفت المخاوف الغربية بعد انتهاء الأزمة السورية من تعاظم قوة سوريا إقليمياً والتدخل الإيراني والدور الروسي، فطرحت المساومات على عودة النازحين، والتلويح بجزرة المساعدات لهم وللدول التي تستضيفهم، مما سيؤدي إلى إطالة عمر الأزمة. وهذا ما طرحه غيدو شتاينبرغ، كبير الباحثين في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، على العديد من المواقع ومنها الدويتشه فيله وأكد على وجوب إتمام التسوية السياسية قبل دفع المساعدات وبالتالي ضرورة التسوية السياسية المرتبطة بعودة المهجرين السوريين إلى بلادهم، وضرورة إعادة كتابة الدستور السوري بالتشاور مع المعارضات التي تعيش في الخارج من خلال رعاية الأمم المتحدة للجنة لكتابة الدستور،. كما صرح بذلك رولف موتسنيش، الخبير في الشؤون الخارجية لدى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، والذي طالب بحل سلمي يتمتع بالشرعية الأممية.
الأمر نفسه ينطبق على مراكز الدراسات الغربية في لبنان: مثل "كارنيغي" الذي أقام مؤتمراً بعنوان: "نظام عالمي متبدل: آفاق العام 2019" في نهاية العام الماضي وتناول المؤتمر الأزمة السورية والصين والتكنولوجيا، كما باشر في الوقت نفسه المركز الألماني للدراسات الشرقية مؤتمراً بعنوان "إعادة بناء مناطق "أحياء" الحرب" في لبنان، وكلا المؤتمرين كانا واضحين في توصياتهما، في أن عملية الإعمار في سوريا لا يمكن أن تتم إلا من خلال الحل السياسي كما يراه الغرب، والتقليل من أهمية الإعمار المنجز في مدينتي حلب وحمص. لم يدع مؤتمر المركز الألماني أهم القائمين على عملية الإعمار في داخل سوريا، كما لم يدع أحد من جهاد البناء ومبرر ذلك "هل تريدون إغلاق المركز؟" مع العلم أن المركز الألماني كان قد أقام مؤتمراً قبل العام 2006 بالاشتراك مع المركز الاستشاري للأبحاث والتوثيق والمعلومات، وهذا يعبر عن سياسة أوروبية جديدة منتهجة تجاه حزب الله.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024