آراء وتحليلات
أزمة اللاجئين الأوكرانيين تنقذ اوروبا من نزيفها الديموغرافي
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
رغم دموع أوروبا المصطنعة على اللاجئين الأوكرانيين الذين كانوا ضحية صراع وجدوا أنفسهم فيه كبش محرقة، نتيجة ولاء وانقياد قياداتهم للغرب ومشاريعه، إلا أن الوقائع والأرقام تشير الى أن الدول الأوروبية التي لطالما حرّضت كييف ضد روسيا استجابة للإملاءات الأميركية، وأمدّتها بالمال والسلاح، كانت المستفيد الأكبر من أزمة اللاجئين الأوكرانيين.
فهي من جهة سدّت فجوة تناقص السكان في القارة العجوز، ومن جهة أخرى، تعمل على دمجهم في مجتمعاتها تمهيدًا لاستغلالهم أملًا في الاستفادة منهم مستقبلًا في الدورة الاقتصادية.
ما هو الوضع الديموغرافي في أوروبا؟
ليس خافيًا على أحد في العالم أن الاتحاد الأوروبي يعاني منذ فترة طويلة من مشكلة ديموغرافية، تتمثل بارتفاع معدلات الوفيات والتقدم في السن، بما يفوق أعداد الولادات.
حاليًا، يبلغ متوسط العمر في أوروبا 81 عامًا. وهو أكبر بأربع سنوات تقريبًا من أمريكا الشمالية. ومن المتوقع أن يبلغ عدد سكان الاتحاد الأوروبي ذروته عند 450 مليون نسمة فقط في غضون السنوات القليلة المقبلة، ثم ينخفض تباعًا إلى ما دون 424 مليون بحلول عام 2070.
وتعقيبًا على ذلك وصف رئيس وزراء كرواتيا أندريه بلينكوفيتش انخفاض عدد السكان بأنه مشكلة وجودية تقريبًا لبعض الدول. ويعود قلق رئيس الوزراء الكرواتي إلى حقيقة تضاؤل الأعداد في البلدان الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية والتي تتفاقم بسبب الهجرة إلى الخارج.
لكن هذه الصورة القاتمة على المستوى السكاني في أوروبا بدأت تتغير بشكل جذري مع نشوب الأزمة الأوكرانية ــ الروسية المدفوعة أميركيًا وأوروبيًا، خصوصًا بعدما لجأ أكثر من 5 ملايين شخص إلى البلدان الأوروبية المجاورة لأوكرانيا.
ففي الأسابيع التي تلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بقيت جميع حدود أوكرانيا باستثناء تلك التي مع روسيا وبيلاروسيا، مفتوحة. وعليه، استخدم معظم اللاجئين واحدة من 31 نقطة تفتيش حدودية في غرب أوكرانيا، ودخلوا بولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا ومولدوفا.
كيف استفادت الدول الأوروبية من اللاجئين الأوكرانيين؟
منذ بدء العملية في أوكرانيا، فرّ حوالي 5.6 مليون شخص معظمهم من النساء والأطفال، وذهبت الغالبية العظمى إلى البلدان المجاورة لها في الغرب.
استقبلت بولندا أكثر من نصف الطائرات التي كانت تحمل اللاجئين، الأمر الذي أدى الى ازدياد عدد سكان وارسو بنسبة 17 في المائة خلال أسابيع، وفقًا للأرقام التي وضعتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. فيما المجر - التي تقلص عدد سكانها من 10.7 مليون في منتصف 1980 إلى 9.8 مليون في عام 2020 - استقبلت أكثر من 500،000 أوكراني.
وبالمثل فإن دولًا كبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا والمجر وربما دول البلطيق، اعتبرت أن أزمة اللاجئين لحظة مناسبة لها، للتحول الى بلدان هجرة اليها، بدلًا من بلدان هجرة منها، وهذا يعود عليها بالفوائد الجمّة، وفي مقدمتها الحصول على مساعدات مالية من الدول الغنية في الاتحاد الاوروبي بذريعة اغاثة اللاجئين وتأمينهم، فضلًا عن استيعاب الأدمغة وأصحاب المهارات منهم داخل هذه الدول.
أكثر من ذلك، تبدو البلدان الواقعة إلى الغرب من أوكرانيا من أكثر الرابحين ديموغرافيًا، رغم أن التدفق يشكل ضغطًا على بعضها، ولا سيما مولدوفا، التي استقبلت أكثر من 400 ألف لاجئ، أي ما يعادل 15 في المائة من سكانها.
ماذا عن الآثار في البلدان الأوروبية الكبرى؟
من المتوقع أن تحقق بلدان أوروبية أخرى، وخاصة تلك التي تضم نسبة كبيرة من النازحين، مكاسب في هذا الصدد. انتقل حوالي 1.5 مليون لاجئ إلى بلدان أبعد غربًا، بما في ذلك ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، بحسب تقديرات جيليان تريغز من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وقبيل اندلاع المعارك، كان حوالي 250,000 أوكراني يعيشون ويعملون في إيطاليا، حيث متوسط العمر أعلى بأربع سنوات منه في أوروبا بشكل عام، فيما معدل الخصوبة هو من بين أدنى المعدلات. المثير أنه في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، زاد عدد سكان النمسا بمقدار نصف نقطة مئوية إلى أكثر من 9 ملايين نسمة، أي 83 بالمائة من هذا النمو كان من الهجرة الأوكرانية.
كيف تبدو الصورة الديمغرافية في كل من روسيا وأوكرانيا؟
يصف خبراء الديموغرافيا الوضع في أوكرانيا بالكارثة الديموغرافية على أقل تقدير، فهي كانت تكافح بالفعل انكماشًا في عدد السكان بفضل الهجرة وعدد أقل من المواليد.
بالمقابل، وحتى قبيل عمليتها العسكرية في أوكرانيا، كانت موسكو بدورها تعاني من انخفاض معدل المواليد بالفعل، رغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عمد الى وضع برنامج مالي لتشجيع النساء على إنجاب الأطفال.
هل التغيير الديموغرافي طويل الأمد؟
ما يجدر معرفته أن معظم اللاجئين الذين فروا من أوكرانيا هم من النساء والأطفال لأن الرجال في الفئة العمرية من 18 إلى 60 عامًا أجبرتهم الحكومة على البقاء في البلاد بخلاف ما يدعيه القادة الاوكران من عدم إجبار السكان على القتال. وبالتالي، إذا كانت الحرب قصيرة، فمن المحتمل أن تعود النساء والأطفال بسرعة إلى أوكرانيا للم شملهم والالتحاق بالأزواج والآباء.
لكن مهلا، فإن كل ذلك يعتمد على المدة التي تستغرقها العمليات العسكرية في اوكرانيا، وعلى مقدار الضرر الذي يلحق بالبلد. فمثلا، خلال حرب كوسوفو عام 1999، عندما قصف حلف شمال الأطلسي يوغوسلافيا فر مئات الآلاف، أو نقلوا قسرا، إلى ألبانيا ومقدونيا المجاورتين.
وبعد انتهاء هذه العملية الجوية التي استمرت 78 يوما، عاد الكوسوفيون بسرعة. وعلى النقيض من ذلك، اثناء الحرب البوسنية، وهي كانت استمرت من عام 1992 إلى عام 1995، وادت الى فرار حوالي 700,000 لاجئ إلى أوروبا الغربية وخارجها، عمد عدد أقل بكثير منهم للرجوع الى البوسنة. وعلى هذا النحو، انخفض عدد سكان البوسنة، حوالي 3.2 مليون نسمة حاليًا، بعدما كان 4 ملايين نسمة قبل الحرب.
في الختام إذا طال أمد المعارك في اوكرانيا، ستكون مجرد مسألة وقت قبل أن يتجه رجال البلاد غربًا للانضمام إلى زوجاتهم وأطفالهم، وهذا سيُعد مكسبًا إضافيًا للأوروبيين، ليستثمروا أكثر فأكثر باللاجئين الاوكرانيين، وذلك عبر اغرائهم بالحوافز والتقديمات الاجتماعية والمالية، وهذا سيؤدي حتمًا الى اندماجهم في بلدان الاتحاد، وبالتالي ملء الفراغ السكاني مستقبلا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024