آراء وتحليلات
لهزيمة روسيا في أوكرانيا.. ما هي تنازلات واشنطن؟
شارل ابي نادر
قد يرى البعض أن طرح العنوان بهذا الشكل قد يحمل نسبة غير بسيطة من "التضخيم"، فكيف يمكن تفهّم أن تتراجع واشنطن عن ملفات ساهمت في خلقها أو تملك قدرة وازنة على التأثير فيها، فقط بهدف تأمين الأرضية الدولية لتحقيق هزيمة روسيا في اوكرانيا وبالتالي هزيمتها في الصراع الدولي الذي تخوضه بمواجهتها؟ وهل يشكل هذا الامر هدفا أميركيًا استراتيجيًا يوازن أو يضاهي كل الأهداف الأميركية الأخرى حول العالم ويعوّض واشنطن كل المصالح التي سوف تخسرها جراء تنازلها عن بعض الملفات الضالعة بها حول العالم، وفقط بهدف تحقيق هزيمة روسيا في أوكرانيا؟
في الواقع، ومن خلال متابعة الاستراتيجية التي تعتمدها واشنطن مؤخرًا بمواجهة روسيا في أوكرانيا، يمكن تحديد أهم عناصر هذه الاستراتيجية بالنقاط الرئيسة التالية:
* عسكريًا:
- جراء صعوبة أو استحالة مواجهة روسيا في أوكرانيا مباشرة عبر وحداتها العسكرية، ولأسباب تتعلق بخطورة الأمر وحساسيته، أو بسبب فقدانها للسند القانوني حيث أوكرانيا ليست عضوًا في الناتو، وبالتالي لا تستفيد الاخيرة من دعم وحماية مباشرة من الأعضاء استنادا لمفاعيل المادة الخامسة للحلف المذكور، فإن دور واشنطن العسكري يقتصر على تسليم الوحدات العسكرية الاوكرانية والمتطوعين الذين يقاتلون معها، كل ما هو مناسب أو ملائم من أسلحة وتجهيزات عسكرية، من أسلحتها الخاصة أو من أسلحة حلفائها الأوروبيين وغيرهم.
- بعد أن أصبحت تلك الأسلحة التي تسلمتها أوكرانيا بداية العملية غير مجدية، جراء تغيير روسيا لمناورتها بشكل أبعد خطر تلك الأسلحة عن وحداتها، مثل صواريخ جافلين المضادة للدبابات وستينغر المضادة للطائرات، ومثل المسيرات التي وجد الروس لها حلًا ناجحًا عبر منظومات الليزر المتعددة المديات والاستهدافات، حاول الأميريكون رفع مستوى الدعم لأوكرانيا بأسلحة أكثر تطورًا وفعالية، مثل راجمات الصواريخ البعيدة المدى "ال ار ام اس". ولكن كما يبدو فإن الروس وردًا على امكانية استعمال الأوكرانيين لهذه المنظومة داخل الاراضي الروسية، أو على الخطوط الخلفية لوحداتهم شرق اوكرانيا، سوف يرفعون مستوى أهدافهم لتطال مستويات سياسية وعسكرية وصناعية، كانت مُحيّدة حتى الساعة، الأمر الذي قد يدفع الأميركيين لإعادة النظر بمتابعة تسليم هذه المنظومة الصاروخية المذكورة للوحدات الأوكرانية.
* اقتصاديًا:
تزامنًا مع الدعم الغربي لأوكرانيا بأسلحة فتاكة، مارس الغرب بقيادة أميركية مناورة ضغط اقتصادي غير مسبوق على روسيا، عبر سيل واسع من العقوبات التي طالت أغلب نواحي الاقتصاد الروسي، ولكنها عمليًا، لم تعط أية نتيجة، لا بل على العكس، أصبح العالم برمته مهددًا بخطر المجاعة وظهرت لدى العديد من الدول بداية أزمة غذاء غير مسبوقة اضافة الى ارتفاع خيالي بأسعار الطاقة والقمح في أميركا وأوروبا وأغلب دول العالم، مع مفارقة لافتة أن العملة الروسية "الروبل" ارتفعت قيمتها، وهي تقترب يومًا بعد يوم من مستويات غير مسبوقة قد تلامس نسبة كبيرة من قيمة اليورو والدولار.
هذا الوضع الضاغط دوليًا، أوصل الغرب نفسه اليه، وكذلك الناتو والأميركيين بالتحديد، اذ لا امكانية لوقف تقدم الروس عسكريًا الذين باتوا أقرب إلى تحقيق أهدافهم الأساسية التي وضعوها للعملية في أوكرانيا (السيطرة على الدونباس وعلى خيرسون وعلى معظم الواجهة البحرية على بحري ازوف والاسود).
وأمام التدهور غير المسبوق في أسعار أغلب المواد الأساسية في كل الدول، وخاصة في الدول التي اختارت تحدي موسكو بالعقوبات غير الطبيعية، وبعد أن رفع الروس من منسوب التحدي للغرب من خلال تثبيت التحكم بالواجهة البحرية الأوكرانية على البحر الأسود، وبالتالي فرضهم التحكم بادارة تصدير القمح والحبوب من أوكرانيا، لم يعد أمام الاميركيين إلا تجربة المناورة الأخيرة أو الطلقة الأخيرة في معركة مواجهة روسيا وهي:
أولًا: الدفع نحو فرض حظر واسع على النفط والغاز الروسيين، بهدف تجفيف كامل مصادر التمويل التي تستفيد منها روسيا في عملياتها ضد الغرب في أوكرانيا، من خلال إجبار الأوروبيين على فرض هذا الحظر والسير به تدريجيًا، وهذا ما حصل فعلًا مؤخرًا.
ثانيًا: بعد أن رأى الأوروبيون خطورة هذا القرار (حظر النفط والغاز الروسيين)، حيث إن تداعياته سوف تكون كارثية على أوروبا والعالم أيضًا، وبعد استنتاج واشنطن للكارثة التي سوف تحل بحلفائها في اوروبا، والتي قد تدفع بعضهم للانسحاب من جبهة مواجهة روسيا، وقد تدفع البعض الآخر الى التراخي وعدم التشدد في هذه المواجهة، أطلقت واشنطن مناورة التراجع في عدة ملفات دولية، بهدف تأمين مصادر بديلة للطاقة الروسية، وذلك على الشكل التالي:
- مع فنزويلا وكوبا، تجاوزت واشنطن عدة اجراءات اقتصادية كانت قد اتخذتها بحق الدولتين، لتفسح بالمجال أمام حركة تجارية مقبولة مقارنة مع السابق، دون أن تظهر الدولتان تراجعًا في موقفهما السياسي من واشنطن.
- مع السعودية، أظهر الرئيس بايدن وبشكل واضح تخليه عما كان يبديه من تعنّت في التواصل مع ولي العهد السعودي، وها هو اليوم يعرب عن بعض التودد للسعودية مع استعداه للقيام بزيارة قريبة الى الرياض.
- ثالثًا: عمدت واشنطن وبشكل مخفي إلى توجيه كل من اليونان وتركيا إلى فتح ثغرة لربط نزاع سابق وموجود أصلًا بين الدولتين حول جزر بحر ايجه، والهدف ايجاد حل للبدء باستخراج الغاز من الحدود البحرية التركية - اليونانية، كمصدر غير بسيط من المصادر البديلة للغاز الروسي.
رابعًا: خلق ربط نزاع طارىء بين لبنان و"اسرائيل"، نواته موجودة أصلًا على خلفية ترسيم الحدود بين لبنان وكيان العدو (المساحة المحتلة من فلسطين)، من خلال دفع "اسرائيل" الى إدخال سفينة استخراج الغاز اليونانية "انيرجيه" الى حقل كاريش، مع علم واشنطن بوجود مفاوضات معلَّقة وخلاف أساسي ونزاع، لم يُحلّ حتى الآن بين الطرفين، وتحضير مناورة مفاوضات، لا تكون بعيدة عن ايجاد حل، يتجاوز المطالب الاسرائيلية والاميركية السابقة، ويكون قريبًا إلى حد ما من المطالب التي قد تكون مقبولة لبنانيًا، والهدف ايضًا، ايجاد مصدر ثانٍ من المصادر المطلوبة كبديل للغاز الروسي، من مياه لبنان ومياه فلسطين المحتلة في شرق المتوسط.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024