آراء وتحليلات
اليابان نحو العسكرة
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
لم يعد العالم كما هو، إذ قلبت الأزمة الأوكرانية العلاقات الدولية وبدّلت التحالفات، وعمّقت الاصطفافات، وأنتجت تحولات بنيوية وجوهرية في النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وأعادت دولًا الى زمن العسكر والتسلح.
بعد المانيا، ها هي اليابان تتخلى عن نهجها السلمي، حيث وجد العالم نفسه أمام صحوة مفاجئة لليابان على التسلح، إذ ارتفعت في ذلك البلد الأصوات وتزايدت الدعوات الداخلية مؤخرًا وبشكل ملحوظ، لاعادة بناء قوتها وقدراتها العسكرية بما يتناسب مع المشهد الدولي المتغير.
ما هي المؤشرات على تغيير اليابان لنهجها السلمي؟
في أواخر شباط، بعد أيام فقط من بداية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، طلبت كييف من طوكيو مساعدات متنوعة من المعدات العسكرية، تشمل أسلحة مضادة للدبابات وذخائر مختلفة، ورادارات الكترونية وسترات واقية من الرصاص.
للوهلة الأولى، ساد الاعتقاد أن اليابان لم تتجاوب مع طلبها هذا لارتباط الأمر بسياستها السلمية، حيث ان طوكيو التي كانت تخلت عن القتال - في اعقاب استسلامها بعد الهجوم النووي الأمريكي عليها - لم ترسل عتادًا عسكريًا إلى دولة أخرى تخوض حربًا منذ أكثر من 75 عامًا.
لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، ففي غضون أسبوع، عدّلت الحكومة اليابانية القواعد (ربما بضغط امريكي) التي تحكم الصادرات العسكرية، وعليه وفي أوائل آذار الماضي، عمدت قوات الدفاع الذاتي في البلاد الى تحميل طائرة ناقلة من طراز بوينج KC-767 بسترات وخوذات واقية من الرصاص، متجهة إلى ساحات القتال في أوكرانيا.
في الحسابات العسكرية، ورغم أنه لا يمكن مقارنة ما قامت به اليابان، مع الجسر الجوي للأسلحة الذي أقامه المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون مع اوكرانيا (وما زال قائما)، غير أن المساعدة العسكرية هذه شكلت تاريخًا مفصليًا، لانقلاب اليابان على هويتها السلمية التي عرفت بها منذ أن دفعتها الولايات المتحدة لإدراج بند ينبذ الحرب في دستورها.
على أن اللافت هو أن الأمر لم يقتصر على تحرك اليابان بسرعة لفرض عقوبات على روسيا في تناغم واضح مع الولايات المتحدة وأوروبا - على عكس ردها على ضم موسكو لشبه جزيرة القرم في عام 2014 - ولكنها كثفت أيضًا المناقشات الأمنية الأوسع نطاقًا، في وقت ترى أنها تواجه تهديدات متزايدة من الصين وكوريا الشمالية.
وتبعًا لذك، صدرت دعوات متكررة من مشرّعين يابانيين من أجل رفع نفقات ميزانية الدفاع في البلاد بشكل كبير، بالتزامن مع بروز نقاش مكثف حول ما إذا كان ينبغي لليابان امتلاك أسلحة قادرة على ضرب مواقع إطلاق الصواريخ في أراضي العدو.
وفي هذا الإطار قال رئيس الوزراء فوميو كيشيدا، في تصريح صحافي منتصف نيسان الماضي ــ كان أعلن فيه عن عقوبات جديدة وطرد ثمانية دبلوماسيين روس ــ إنه من المهم "تعزيز الدفاع بشكل شامل مع الشعور بالسرعة".
ما يجدر التوقف عنده، انه بالنسبة إلى كيشيدا زعيم الجناح الحمائمي للحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم، فإن لغة الأمن القومي الحازمة هذه تعد خروجًا عن تركيزه السابق على التخلص من وباء "كورونا" وإصلاح السياسة الاقتصادية.
ما هو مصدر قلق اليابان؟
تظهر هذه الخطوات اليابانية لتعزيز قوتها الرادعة، عزمها على حماية نفسها ومصالحها في آسيا عبر قدراتها وقوتها الذاتية، بدلًا من الاعتماد ببساطة على تحالفها مع الولايات المتحدة.
من هنا، فإن مصدر قلق القيادة اليابانية يرتبط جزئيًا بالأسباب التالية:
أولها: وقوع المناطق الشرقية لروسيا، على بعد 25 ميلًا فقط من طرف جزيرة هوكايدو الشمالية في اليابان، لا سيما ان المعارك في اوكرانيا، اقفلت قناة دبلوماسية مع موسكو، كانت اليابان قد أبقتها مفتوحة على أمل التفاوض على وضع الجزر المتنازع عليها التي يطالب بها البلدان ومنعتهما من توقيع معاهدة تنهي الحرب العالمية الثانية.
ثانيا: الصعود الصاروخي للصين التي تصنفها وزارة الدفاع اليابانية الآن على أنها أخطر تهديد طويل الأجل للبلاد. فطوكيو تعيش هاجس أن تحاول بكين استخدام القوة للسيطرة على تايوان، وبالتالي، فإن هذا سيكون له تداعيات كارثية على طوكيو كما تعتقد.
ثالثا: خوف اليابان من خسارة الأراضي في المنطقة المحيطة بجزر سينكاكوس، وهي جزر تديرها اليابان لكنها تتنازع عليها مع الصين، ولهذا فقد حشدت طوكيو طائرات مقاتلة تابعة لقوات الدفاع الذاتي للقيام بدوريات لحمايتها.
رابعا: هواجسها المتنامية من كوريا الشمالية والتي ارتفع منسوبها مع بداية العام الحالي، بسبب قيام بيونغ يانغ، بتجارب على حوالي 12 صاروخا باليستيا، سقط بعضها بالقرب من المياه الإقليمية للبلاد.
زد على ذلك، أن هناك شعورًا أصبح سائدا بين السياسيين في اليابان ومفاده أن "العالم قد تغير، فالأمر لا يتعلق بالازمة الاوكرانية، ولكن أيضًا حول ما تفعله كوريا الشمالية وما تفعله الصين".
ما هي الخطوات التي اتخذتها طوكيو لتعزيز قدراتها العسكرية؟
مع نشوب الأزمة، شرعت اليابان بالفعل بخطوات تدريجية لتعزيز قدرتها الدفاعية والقتالية، تحسبا لاحتمال مواجهتها أعمالًا "عدائية" من مكان قريب، بحسب قادتها.
فخلال الحملة للانتخابات البرلمانية في تشرين الأول الماضي، أصدر الديمقراطيون الليبراليون، برنامجًا حزبيًا اقترحوا فيه زيادة ميزانية الدفاع اليابانية إلى 2 بالمائة من الناتج الاقتصادي للبلاد لجعلها متوافقة مع أعضاء "الناتو".
وفي شهر نيسان الماضي، جدد وزير الدفاع نوبو كيشي الدعوات لتوسيع الإنفاق العسكري بشكل كبير، حتى المعارضة السياسية في البلاد أيدت زيادة النفقات الدفاعية.
أما التطور الأبرز الذي حدث في هذا الاطار، فهو التدريبات العسكرية المتصاعدة التي نفذتها قوات الدفاع الذاتي اليابانية في السنوات الأخيرة مع الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا وفرنسا. كما شاركت اليابان في آذار الفائت، بسلسلة تمارين عسكرية مع مشاة البحرية الأمريكية - كان جرى التخطيط لها قبل الأزمة الأوكرانية بفترة طويلة - حيث حلقت القوات اليابانية بطائرة من طراز MV-22B Osprey للمرة الأولى بالتعاون مع القوات الأمريكية.
ليس هذا فحسب، فقد حولت اليابان في العام الماضي سفينة مدمرة تابعة لبحريتها، إلى حاملة طائرات يمكنها حمل طائرات مقاتلة من طراز F-35. كما حصلت مؤخرًا على طائرات استطلاع بدون طيار أمريكية الصنع. وعلى المنوال ذاته، أقر البرلمان الياباني في عام 2015 قوانين أمنية تسمح للجيش الياباني بمهام قتالية في الخارج.
ماذا عن رأي الجمهور الياباني في تحول بلادهم نحو سياسة العسكرة؟
وفقًا لاستطلاعات الرأي على مدى السنوات الخمس الماضية، أيد حوالي ثلثي الجمهور الياباني استمرار تعزيز القدرات الدفاعية للبلاد.
وأظهر الجمهور دعمًا أقل بكثير لارسال القوات اليابانية إلى القتال في الخارج. لهذا، وفي استطلاع أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية والمعهد الياباني للشؤون الدولية العام الماضي، قال 6 من أصل 10 يابانيين (شملهم الاستطلاع) إنهم لا يريدون أن تقاتل القوات اليابانية جنبًا إلى جنب مع الأمريكيين في أي صراع.
علاة على ذلك، كشفت استطلاعات الرأي أيضًا، أن الرأي العام منقسم بشأن ما إذا كان ينبغي لليابان امتلاك أسلحة، يمكنها من خلالها، مهاجمة مواقع إطلاق الصواريخ في أراضي العدو. وعلى عكس كوريا الجنوبية، حيث أدت الأزمة الأوكرانية إلى إحياء المناقشات حول ما إذا كان ينبغي للبلاد امتلاك أسلحة نووية، فإن الجمهور في الياباني لا يزال معارضًا.
في الختام، فإن التحوّل الذي طرأ على سياسة اليابان العسكرية، وقبلها المانيا، يعود بنا بالزمن الى ما كان سائدًا قبل اندلاع شرارة الحرب الكونية الثانية. المشهد الدولي ينزلق تدريجيًا نحو العسكرة والحرب التي قد تندلع شرارتها في أي لحظة لا سيما إذ نفذت روسيا تهديداتها باستهداف شحنات الاسلحة الامريكية والاوروبية الى أوكرانيا، عندها يكون قد بدأ عصر الجنون فعلًا..
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024