آراء وتحليلات
مذبحة نيوزيلندا فشل استخباري مزدوج
محمد محمود مرتضى
شهدت نيوزيلندا هجوما ارهابيا وحشيا شنه شاب استرالي على مسجدين في مدينة (كريست تشيرش) أدى لاستشهاد تسعة واربعين مصليا وجرح عدد آخر، وأظهرت المعطيات أن خلفية الهجوم الارهابي عنصرية يمينية. ورغم أن هذه الجريمة الوحشية ليست الاولى، الا أنها الأكبر من حيث عدد الضحايا التي سقطت، والاولى بالطريقة التي قُدمت بها حيث قام المهاجم ببث هجومه مباشرة عن طريق الانترنت عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن أنه كان قد ذكر نيته بالعملية قبل ساعات من تنفيذها.
لقد فتح هذا الارهاب الحديث مجدداً عن تنامي تيار يميني مطرف يتخذ من العنف سبيلا لتحقيق اهدافه، تغذيه وسائل اعلام مختلفة في القارتين الاوروبية والاميركية، فيما يتبناه بتصريحات ليست خافية الرئيس الاميركي دونالد ترامب.
وبالعودة الى الوراء، ففي التاسع والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير من العام 2017، أطلق "الكسندر بيزونيت" النار على نحو أربعين رجلًا وأربعة أطفال بعد الصلاة في القاعة الكبرى بالطابق الأرضي لمسجد "كيبيك" في كندا، حيث استشهد ستة أشخاص (جزائريان وغينيان ومغربي وتونسي) من المهاجرين إلى كندا، وأصيب خمسة بجروح خطرة.
وفي ايطاليا قام "لوكا ترايني" في شباط/ فبراير من العام 2018؛ بجولة بسيارته في شوارع مدينة ماتشيراتا الإيطالية على مدار ساعتين، حاملًا مُسدسًا باحثاً عن المهاجرين ومطلقاً النار عليهم، ما أسفر عن إصابة ستة أفارقة.
وفي الثلاثين من شهر كانون الثاني/ يناير الماضي شهدت الفلبين هجوما بقنبلة يدوية على أحد مساجدها، أدى إلى مقتل اثنين من رجال الدين وإصابة 4 آخرين.
اما في بريطانيا، فقد أصدرت وزارة الداخلية البريطانية في السادس عشر من شهر تشرين الاول/ أكتوبر من العام 2018، إحصائية عن ما تسميه "جرائم الكراهية" ضد أشخاص بسبب معتقداتهم الدينية، ومقارنة بالعام الماضي، تشهد تلك الجرائم ارتفاعًا قياسيًّا بزيادة 40 في المائة، حيث بلغت نسبتها نحو 52 في المائة.
وكانت بريطانيا قد شهدت في الفترة من الواقعة من نيسان/ أبريل من عام 2017 حتى آذار/ مارس من العام الحالي اربعة وتسعون الف بلاغًا عن وقوع "جريمة كراهية". وفي شهر ايار/ مايو من العام 2018، حُكم على زعيم جماعة "بريطانيا أولًا" اليمينية المتطرفة، "بول غولدينج"، ونائبته "جايدا فرانسين"، بالسجن لمدة تسعة أشهر بعد إدانته بتهمة التحرش، وتصوير مسلمين، ونشرها على موقع الجماعة الإلكتروني.
وفي فرنسا ألقت الشرطة الفرنسية في شهر تموز/ يوليو من العام 2018 القبض على أعضاء خلية يمينية متطرفة أطلقوا عليها اسم "حركة القوات الفاعلة"، كانوا يخططون لشنِّ هجمات ارهابية ضد المسلمين في فرنسا، وقد عثر بحوزتهم على بنادق ومسدسات وقنابل يدوية محلية.
وبالانتقال الى ألمانيا فقد أصبح العداء للمسلمين ملحوظًا بشكل كبير، فوفقاُ لصحيفة "دير شبيغل" فإن السلطات في مدينة برلين وثقت تسعماية وخمسين هجومًا ضد مسلمين ومنشآت تابعة لهم (كالمساجد) خلال العام 2017.
وتعتبر حركة "بيجيدا" الاوروبية (والاسم اختصار لـ "أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب") اليمينية المتطرفة أبرز الحركات المناهضة للمسلمين في المانيا الجوار، حيث تطالب صراحة بطرد المسلمين والمهاجرين من بلادهم، وترفع شعار "عودوا إلى حيث أتيتم". وقد تورطت هذه الحركة في تنفيذ عدة هجمات عنصرية تجاه المساجد: منها على سبيل المثال تعليق دُمى على المساجد وكتابة عبارات مسيئة للرسول(ص).
وبالعودة الى هجوم نيوزيلاندا، فيمكن ملاحظة التشابه بينه وبين هجوم كندا الذي نفذه "الكسندر بيزونيت" ، فقد ذكر "برينتون تارانت"، منفذ هجوم نيوزيلندا، على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي (فايس بوك) إنَّه سينفذ الهجوم من اجل أن "يقلل مباشرة معدلات الهجرة إلى الأراضي الأوروبية". وفي تأكيد لتشابه الأهداف مع هجوم كندا فيمكن ملاحظة اسم منفذه "Alexandre Bissonnette"، مدوناً على سلاح منفذ جريمة نيوزيلندا.
والواقع، انه فيما كانت الاستخبارات الغربية تركز جل اهتماماتها على كشف الخلايا المتعلقة بالجماعات التكفيرية، كانت حاضنة كبيرة تتعلق باليمين المتطرف تنمو. وتعود مشكلة رقابة هذه الجماعات ان نموها لم يكن من خلال مجموعات عنفية منغلقة بقدر ما كان نموا من خلال احزاب سياسية تجهر بشعاراتها واهدافهاـ وتشارك في الحياة السياسية عبر الانتخابات وغيرها.
والمتابع للحراك اليميني المتطرف لن يصعب عليه ملاحظة الميول العنفية التي تتنامى. واذا ما اخذنا مذبحة نيوزيلندا نموذجاً فيمكن لنا أن نتحدث عن اخفاق استخباري مزدوج:
الاول: معلوماتي يتعلق بإحباط الهجوم قبل وقوعه؛ علما ان المهاجم كان ينشر مادة تشير الى نيته تنفيذ عمل ارهابي.
والثاني: تقديري يرتبط بإخفاق استخباري بتقدير حجم التحولات التي تحصل داخل البيئة اليمينية التي بدأت تميل نحو ممارسة العنف والارهاب في سبيل تحقيق اهدافها.
والواقع أنه يصعب تصديق ان ثمة قصور في هذه التقديرات مع المعطيات التي اشرنا اليها، سواء من خلال مجموعة من الهجمات التي وقعت، أو من خلال الاحصائيات المتوفرة عند هذه الاجهزة الاستخبارية، ما يقوي من احتمال التقصير لا القصور.
ومهما يكن من أمور، فان تطور تنفيذ مثل هذه الهجمات عن طريق تصويرها سواء عن طريق عرضها لاحقا او عن طريق البث المباشر ينذر بتحولات اكبر داخل البيئة اليمينية، لا سيما اذا اخذنا بعين الاعتبار ان تصوير الهجمات وعرضها يقع في اطار الاستقطاب، واستثارة عنصر الحماسة عند الفئات المؤيدة لهذه العمليات، ما يشي ان عناصر اخرى قد يستثيرها هذا العرض ويدفعها لتقليده ومحاولة تماثله بهجمات مشابهة. وما قد يؤيد هذا الامر التعليقات الكبيرة والعلنية من نشطاء غربيين على وسائل التواصل الاجتماعي، لم تتوان عن اظهار تأييدها للمذبحة و"مباركتها" لها.
وفي المقابل، فان هذا النوع من الارهاب سوف يستثير عناصر من الجهة المقابلة ستعتبر ان القوى الامنية عاجزة عن حمايتها، ما قد يدفعها للانجرار الى الرد بجرائم مشابهة من جهة، كما أن ذلك قد يطيح بجهود كبيرة قامت بها جهات تشعر بالمسؤولية حاولت اجهاض اهداف داعش واخواتها في "شرعية" هجماتها، وبالتالي ان يلعب هجوم نيوزيلندا دورا دعائيا لمصلحة الجماعات التكفيرية في "صوابية" خياراتها الارهابية أيضاً.
في المحصلة، ان الحد الادنى المطلوب اليوم، ليس فقط التوازن في التصريحات المتعلقة بمثل هجوم نيوزيلندا فلا تميز بين ارهاب وارهاب، فتصف احدهم بجرمية كراهية فيما تصف الآخر بالإرهاب، بل المطلوب هو الالتزام بمعيار موحد وعادل في تصنيف الارهاب، والمسارعة لسن قوانين رادعة تجرم التطرف من أي جهة صدر، بما فيها الارهاب الذي يمارسه الكيان الصهيوني.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024