آراء وتحليلات
الأزمة الاقتصادية من منظور "ماكرو" اقتصادي
د. عدنان يعقوب
ليست الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية في لبنان وليدة اليوم، إنما هي حصيلة تراكمية لسياسات السلطة سواء على المستوى النقدي عبر سعر الصرف ودور مصرف لبنان، أو عبر السياسات الاقتصادية للحكومات بعد انتهاء الحرب الأهلية، التي حوّلت البلد إلى "كازينو مغلق" يعمل فيه الجميع لخدمة المصارف.
أولًا: على مستوى سعر الصرف
مع نهاية عام 1991 أُقرَّت زيادة الرواتب في القطاع العام بمقدار ضعفين ونصف، عبر ضخ كمية كبيرة من النقد في السوق، حيث كان المطلوب وقتها أن يتعامل مصرف لبنان مع هذه الكميات عبر اتاحة المجال للسوق ليستوعب جزءًا من هذه الزيادة من خلال ترك سعر صرف الليرة ينخفض تدريجيًا.
لكنّ مصرف لبنان أخذ منحىً آخر فاقم الأمور عن قصد. وبقرار مجهول المصدر، لكنه متواطئ مع مجموعة من أركان الحكم بهدف إفراغ المصرف المركزي من احتياطه النقدي وتشليحه سلاحه في مواجهة تدهور سعر الليرة، أخذ ينفق من الاحتياط مبالغ ضخمة دون أي مبرر، حيث بلغ مجموع إنفاق المصرف المركزي نحو 500 مليون دولار، خافضًا بذلك احتياطه من مليار إلى 0.5 مليار$.
وكان السبب حينها يعود لوجود طلب على الدولار أقل من العرض، مع التزام الحكومات المتعاقبة الامتناع عن الإنفاق التنموي، لكي لا تتسبّب بحصول عجز في موازنات الدولة السنوية.
استعادت التجربة اللبنانية خصائص ما قبل 1975، لجهة أولوية القطاع المصرفي وأولوية ثبات سعر صرف الليرة لخدمة أهداف هذا القطاع، حيث سجل حينها ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة من 3.22 ليرة عام 1964 الى 3.92 ليرة للدولار حتى العام 1981، ووصل في آذار من العام 1981 الى ما يقارب 4 ليرات للدولار الواحد، واستمر حتى حزيران/ يونيو من العام 1982 مع الاجتياح الاسرائيلي يوم وصل الدولار الواحد الى 5 ليرات لبنانية.
بعد ذلك، تطور سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية وفقًا للرسم البياني حيث سجل عام 1987، 455 ليرة للدولار، ثم ارتفع الى 879 ليرة للدولار الى أن وصل في آب 1992الى 2880 ليرة لكل دولار. عندها، استقالت الحكومة، وكان مجموع رساميل المصارف المجمّعة حوالي 140 مليون دولار.
وهنا حدثت عملية السرقة الواضحة لأموال الناس، حيث:
1 ـ خسر العاملون براتب أو أجر (الذين يشكلون نحو 60% من القوى العاملة) قيمة أجورهم، وخسرت تعويضات نهاية الخدمة قيمتها، وكذلك ودائع آلاف المودعين الصغار، ووُضعت اليد على النقابات العمالية وفُرضت شروط قاسية للعيش والعمل والسكن في لبنان.
2 ـ تضخمت أرباح المصارف والاحتكارات التجارية وجرى السطو على الأملاك العامة وانهارت الخدمات العامة وارتفع الدين العام إلى أكثر من 70 مليار دولار.
وفجأة، مع تشكيل حكومة في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1992 هبط سعر الدولار إلى 1838 ليرة بعدما كان قد لامس مستوى 3 آلاف ليرة. حينها علق أحد الاقتصاديين بالقول: "لقد جمعنا ثروة"، في إشارة إلى الأرباح التي تحققت من المضاربات. وبعد ذلك، سجل سعر صرف الدولار في أيار/ مايو 1993، 1838 ليرة ليتم تثبيت سعر الصرف عام 1999 عند 1507.5 ليرات للدولار.
ثانيًا: على مستوى المصارف
طيلة عقود، شكّل القطاع المصرفي ركيزة للاقتصاد اللبناني. تمكّن من جذب الودائع ورؤوس الأموال، سواء من المستثمرين العرب أو المغتربين الذي رأوا في مصارف بلدهم ملاذاً آمناً لجنى عمرهم، حيث بلغت قيمة الودائع الإجمالية أكثر من 150 مليار دولار قبل عام من بدء الأزمة عام 2019. كما بلغت رؤوس أموال المصارف في نهاية عام 2019 (حسب إحصاءات جمعية المصارف) 21.626 مليار دولار، ثم وصلت إلى 22.753 مليار دولار في نهاية عام 2020.
حققت المصارف أرباحًا صافية متراكمة بلغت 18.5 مليار دولار من جراء السياسات المعتمدة خلال السنوات العشر الأخيرة، أي منذ عام 2010 حتى عام 2019 (علمًا أن الأرباح التي حقّقتها المصارف خلال عام 2019، قدرت بنحو 1.8 مليار دولار، وهي كانت لا تزال أعلى من المعدّل الوسطي الذي حقّقته المصارف في السنوات التي سبقت بدء الهندسات المالية لمصرف لبنان، وتبلغ 1.6 مليار دولار)، حيث أدّت تلك السياسات إلى تحويل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ريعي، منخفض الإنتاجية وذي معدلات نمو متدنية، وذلك عبر توجيه التسليفات إلى الاستثمار في الأوراق المالية ذات الفوائد المرتفعة، بدل القطاعات الاقتصادية المنتجة (الصناعة والزراعة) حيث انخفضت التسليفات للقطاع الخاص المقيم وغير المقيم من 59 مليار دولار نهاية 2018 إلى 29,2 مليار دولار أي تراجع بنسبة (50%) نهاية تشرين الأول 2021، وتخطت نسبة البطالة 35 % في العام 2019.
بالمقابل انخفض عدد الفروع المصرفية من 1081 نهاية عام 2018 الى 919 فرعاً نهاية تشرين الثاني، أي تراجع بنسبة 15 % وتقلّص عدد الموظفين في الفترة ذاتها من 25908 موظفين إلى نحو 20000 موظف، أي بنسبة 23 %.
كل ذلك دفع بالوضع الاقتصادي نحو الهاوية والمصير المجهول، وربط مصير الشباب اللبناني، وتحديدا أصحاب الكفاءة والاختصاص، بالهجرة الدائمة، التي تزداد أرقامها يوما بعد يوم، مخلفة وراءها المزيد من الضعف في الأداء الاقتصادي، وحارمة المجتمع اللبناني من الرأسمال البشري القادر على تغيير النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية البالية.
بالمقابل دلت الكثير من المؤشرات على ارتباط المصارف بالفساد من خلال ما حصل في العقود الماضية لجهة ربط آليات الاستدانة وتمويل عجز الخزينة بمؤشرات ضعيفة الصلة بالاقتصاد يسهل إدارتها صعوداً أو هبوطاً بقرارات تصدرها السلطة النقدية أو المالية. بمعنى أن الدين العام كان مرتبطاً بعمق الدولة المالي بدلاً من أن يكون مرتبطاً بالناتج المحلي الإجمالي، وعبّرت عن هذا الأمر نسبة الدين العام إلى الموجودات المصرفية، التي بلغت 42% في عام 2010. في المقابل كانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تصل الى 138% في عام 2010 وتخطت 170% في نهاية عام 2019.
هذا الأمر يشير إلى مستوى الترابط بين الدين وبين مركزية الدولة وتخصيصها الموارد لهذا الأمر بنسبة كبيرة من النفقات العامة. كما بينت الإحصاءات أن المصارف واصلت تحقيق الأرباح الهائلة والتي تضخّمت ووصلت الى 2234 مليون في عام 2018، حيث كان مصدر الجزء الأكبر من أرباح المصارف توظيفات المصارف لدى القطاع العام، أي في أدوات الدين العام والأدوات التي أصدرها مصرف لبنان، وهذا الأمر أتاح مضاعفة رؤوس أموالها بمعدل 1.3 مرات أو ما قيمته 12.4 مليارات دولار.
لكن إصرار المصارف على لعب دور الضحية ومطالبتها بإصلاح فساد السياسيين وإبعادها عنهم، هو تمايز لطالما رغبت المصارف أن تظهره للعلن على اعتبار أنها لم تقم بتمويل هذا الفساد طوال العقود الماضية، ولم تكن منغمسة فيه إلى أقصى حدود دون أن ننسى أن أكثر من 60% من موجودات المصارف موظّفة في الدين العام سواء كان على شكل سندات خزينة أم شهادات إيداع صادرة عن مصرف لبنان أم هندسات مالية مع مصرف لبنان، ما يعني أن الجزء الأكبر من إيرادات المصارف هو من المال العام الذي تنفقه وزارة المال أو يخلقه مصرف لبنان.
أما في الوقت الحاضر، فنرى أن النظام المصرفي أصبح جزءًا أساسيًا من المشكلة. من هنا، لا بد من إصلاح جذري له، لأنه غير مؤتمن على ودائع الناس ولم يعد يخدم الغرض الأساسي المتمثل في نقل المدخرات لتمويل الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي والمنتج.
المصرف المركزيمصرف لبنانالمصارف
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024