معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

عبر ودروس من الأزمة الروسية - الأوكرانية
14/04/2022

عبر ودروس من الأزمة الروسية - الأوكرانية

بغداد - عادل الجبوري

ربما تكون العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا التي اندلعت في الرابع والعشرين من شباط / فبراير الماضي، الحدث العالمي الأبرز حاليًا، لأنها من جانب، أماطت اللثام عن حقائق مهمة وحيوية كانت خافية عن الكثيرين. ومن جانب آخر، تركت وستترك آثارًا سياسية وأمنية واقتصادية كبيرة جدًا على المنظومة العالمية، وبعض تلك الآثار آنية وبعضها الآخر مستقبلية.

ولعل بضعة أسابيع من العملية العسكرية التي غاب عنها عنصر التكافوء والتوازن بين الطرفين، كانت كافية للكشف عن هشاشة وضعف وتردد القوة العالمية الأولى المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية، وفقدانها زمام المبادرة في الدفاع عن حلفائها وأصدقائها وأدواتها، سواء بعنوانها الخاص، أو من خلال حلف شمال الاطلسي(الناتو)، التي تعد هي الطرف الأكبر والأكثر ثقلًا وتأثيرًا فيه. ولاشك أن التاريخ البعيد والقريب، يسجل الكثير من الأرقام والحقائق عن خذلان أميركا لحلفائها وأتباعها وأدواتها، كما هو الحال مع شاه ايران محمد رضا بهلوي في عام 1979، ومع صدام حسين في عام 2003، ومع حسني مبارك في عام 2011، وغيرهم كثيرين، والآن يبدو أن الدور قد وصل الى الرئيس الاوكراني، ذلك الممثل الكوميدي الشاب، فولوديمير زيلينسكي، الذي ربما لو كان يعلم أن الأمور ستصل الى ذلك المستوى من السوء والخطورة، لما سعى ولا حتى فكر بالرئاسة، ولا بالدخول الى معترك العمل السياسي بالمرّة.  

وبينما كان زيلينسكي يعوّل كثيرًا على الدعم والاسناد العسكري المباشر من الولايات المتحدة، كانت صدمته وخيبة أمله كبيرة جدًا، بعد عدم حصوله على شيء منها سوى التهديدات الفارغة لروسيا والوعود الجوفاء والاجراءات المخجلة الخجولة التي لم يكن لها أثر عملي ملموس على أرض الواقع.

وكانت صدمة وخيبة أمل زيلينسكي أكبر، وهو يتلقى الصمت من جيرانه وأصدقائه الأوربيين، وقد عكست بعض تصريحاته ونداءاته وانتقاداته اللاذعة للحكومات الاوروبية حجم وطبيعة المأزق الذي وقع فيه، والخداع الذي تعرض له، والمراهنات الخاسرة التي بنى عليها حساباته الحربية. وهذه هي الحقيقة الأخرى من افرازات وتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية.            

بعبارة أخرى، أثبتت تلك الحرب، خطأ التعويل والمراهنة على الولايات المتحدة، التي -كما أشرنا انفا- تمتلك تاريخًا طويلًا وحافلًا بخذلانها لأصدقائها وأتباعها في كل مكان، ناهيك عن تراجع تأثيرها وحضورها على المسرح العالمي، بسبب صعود قوى عالمية أخرى مثل الصين بالدرجة الأساس، وكذلك انشغالها - أي الولايات المتحدة - بمشاكلها وأزماتها الداخلية التي باتت خلال الأعوام الأخيرة أكثر وضوحًا وأشد خطرًا على تماسكها ووحدتها السياسية والاجتماعية.

ليس هذا فحسب، بل إن تلك الحرب راحت ترسم معالم وملامح نظام عالمي جديد، تختلف معادلاته عن المعادلات القائمة حاليًا، نظام تتراجع فيه الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، ومنظومة حلف "الناتو"، والقوى التابعة، مثل "اسرائيل" والسائرين في طريق التطبيع معها، لصالح تنامي حضور وقوة وتأثير محور مقابل، يتشكل من روسيا والصين، كقوى عالمية كبرى، ومعهما قوى اقليمية مؤثرة سياسيًا واقتصاديًا مثل الجمهورية الاسلامية في ايران والهند وباكستان.

ولا شك أن تشابك وتداخل المصالح الاقتصادية على نطاق عالمي واسع، منح روسيا قدرة أكبر على المناورة والضغط عبر تعدد البدائل والخيارات، في ذات الوقت الذي جعل منظومة الاتحاد الاوربي ومنظومات اخرى، عاجزة عن اتخاذ خطوات عملية حقيقية، من شأنها أن تضعف الموقف الروسي، وتعزز الموقف الاوكراني. ولاشك أن هذا وغيره يصب بالنهاية في مصلحة القوى المناوئة للولايات المتحدة والغرب، بصرف النظر عن التوجه الايديولوجي والعقائدي لتلك القوى.

فتداخل وتشابك المصالح في عالم اليوم بين دول وكيانات ومجتمعات تفصل بين بعضها البعض بحار ومحيطات وقارات، جعل من أي أزمة تحدث في هذا البلد أو ذاك تنعكس سريعًا على البلدان الاخرى القريبة والبعيدة على السواء، مع تفاوت في مستويات التأثر والتأثير، ارتباطا بدرجة المصالح وطبيعتها وعناوينها وأحجامها، وهذا ما تنبهت له روسيا ووضعته في الحسبان مبكرا.

بعبارة أخرى، أنه من الطبيعي جدًا أن تتسبب أزمة عالمية خطيرة، كالعملية العسكرية العسكرية الروسية في أوكرانيا بأهتزازات وتصدعات سياسية وأمنية واقتصادية كبرى على الصعيد العالمي، بحيث أن تأثيراتها واسقاطاتها وتدعياتها لا تقتصر فقط على رقعة جغرافية معينة مجاورة وقريبة لميدان الصراع والمواجهة العسكرية المسلحة، فالازمة التي تسببت خلال الايام الاولى لاندلاعها بدمار هائل بالبنى التحتية والمنشات والمراكز الحيوية الاوكرانية، بفعل القدرات والامكانيات العسكرية الروسية الهائلة من حيث العدد والعدة والتقنية، ألقت بظلال ثقيلة على المشهد الروسي العام، من خلال جملة اجراءات عقابية اقتصادية، وحملات مقاطعة راحت تتسع يومًا بعد يوم، لتبدأ من الاقتصاد وتمتد الى الرياضة والثقافة والسياحة والتعليم، ومن ثم لتمتد وتتسع تلك الظلال الثقيلة الى مساحات أخرى قريبة من ميادين الصراع وبعيدة عنها.

ويخطئ كثيرًا من يعتقد أن روسيا لم ولن تتأثر، انطلاقًا من كونها قوة عالمية عظمى تمتلك امكانيات وقدرات وموارد هائلة، الى جانب حضور فاعل ومؤثر في عموم الساحة الدولية. لكن في ذات الوقت، يخطئ كثيرًا من يعتقد أن كل ذلك التحشيد العالمي ضد روسيا، سيرغمها على الخضوع والاستسلام، أو أنه سوف يفضى إلى هزيمتها وانهيارها، لأن الحقائق والمعادلات القائمة بأبعادها الاقتصادية والأمنية والسياسية والعسكرية، لم تعد تتوافق مع نظرية وجود منتصر يقابله مهزوم منكسر في كل المعارك والحروب العسكرية غير العسكرية، مهما كانت قوة وقدرة الذي يخوضها ويتورط فيها.

والاشارة المهمة هنا، تتمثل في أن هذه الحرب سواء وضعت أوزارها بعد وقت قصير، أو امتدت لفترة أطول، ستكون نقطة فاصلة بين زمنين، بشكل قد لا يختلف كثيرًا عن عهد ما بعد الحرب العالمية الأولى وكذلك الثانية.      

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل