آراء وتحليلات
عن بعض العرب ودروس الكرامة التي لم تُقرَأ
أحمد فؤاد
في أجواء عربية مثقلة بأسئلة صعبة وكثيرة، وفي ظلال صراع عالمي يجري ساخنًا عند قمته، ويرسم على الخرائط خطوطًا وألوانًا حمرًا، ووسط محاولات عدة للخروج من الوضع الصعب الراهن، ومع إرهاصات لنظام عالمي جديد في طور من التشكل المبدئي، وبجوار قنابل الدخان التي تطلقها كل الأطراف للتعمية أو لفت الانتباه والإشارة، يجد العالم العربي نفسه في وسط عالم فاعل بينما هو مفعول به، عالم الغد يصنع أمامنا فيما نحن عاجزون عن دخول عالم اليوم.
كل ما يجري بسبب أو في خضم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا يضرب كل دولة عربية على حدة، بفعل الاعتماد الهائل على الأسواق العالمية كمورد للغذاء والمنتجات، ظهر وانكشف قبح خيار الاعتماد على الاقتصاد الريعي، وخطيئة السير وراء وصفات المؤسسات الغربية، التي لم تترك نقيصة إلا وألصقتها بالشركات الحكومية والقطاع العام والإدارة المركزية للاقتصاد الوطني.
إلا أن المؤلم في الحالة العربية الراهنة، وهي حالة بائسة ومتردية، هي أن أغلب حكومات الدول والأنظمة تضع على رأس أولوياتها للحل تدفقات الأموال الخليجية، كمهرب من العجز الاقتصادي الذي تعاني منه أغلبها، وترى في جذب الاستثمارات من السعودية والإمارات هدفًا في حد ذاته، يرتبط بضرورة استمرار الحاكم على الكرسي.
والمؤلم جدًا في ظل الفقر الشديد لهذه الفرضية، أن الشعوب هي من تدفع وحدها الثمن، من كرامتها أولًا، ثم من إمكانياتها واستقلالها الوطني وثرواتها الحقيقية وترابطها، والكثير جدًا جدًا من النزيف المتسارع والمستمر، والذي لا تخطو استثمارات الرياض وأبو ظبي بدونه إلى دولة عربية، ثم تتركها فريسة سهلة في مرحلة تالية لشروط سيدها الأميركي، بعد أن تكون قدمت له الفريسة جاهزة للالتهام، منزوعة عنها حصونها ومفتوحة خطوط دفاعها وخالية من كل مصدر قوة يمكن الركون إليه.
قبل أسابيع عديدة، خرج العديد من أقطاب الانحياز للمال الخليجي في لبنان بحملة شعواء على وزير الإعلام المكلف، جورج قرداحي، بسبب وصفه للحرب العدوانية المجرمة في اليمن بـ "العبثية"، مطالبين باستبعاد الرجل من الوزارة، وخيرًا فعل هو بالاستقالة والابتعاد، بعد أن فضح غلمان السعودية وصنائعها في لبنان، والحجة الجاهزة التي يرفعها هؤلاء في كل موقف أن المال الخليجي قادر على إنقاذ لبنان من ورطة اقتصادية.
نسي أو تناسى من تطعمهم السعودية وتدعمهم أن الكرامة الوطنية لها ثمن، يفوق أي مصالح اقتصادية أو علاقات سياسية، وإذا فرط الإنسان في الكرامة مرة، فإنها تكون الأولى والأخيرة، إذ ليس بعد التنازل والتفريط من غال أو عزيز، ومهما كان المقابل ومهما طال الدعم، فكلها حلول مؤقتة لمشكلة مزمنة، ثم تعود الأزمة إلى الواجهة مرة أخرى.
في مصر، والتي سبقت لبنان خطوة على طريق التفريط والتنازل مقابل الدعم الخليجي لنظام الحكم، قررت أخيرًا الإمارات أن تدخل بشكل مباشر لدعم نظام الجنرال السيسي، في ظل أزمة مالية مزمنة، لم تعد تفيد معها كل قروض الأرض، من صندوق النقد والبنك الدوليين، وصولًا للقروض من الصين وأوروبا وآسيا والبورصات العالمية، مع الفشل الكامل والمستمر في إدارة الاقتصاد، والغباء الواضح في وضع الأولويات، خاصة في وقت أزمة عالمية.
اختار محمد بن زايد أن يدشن زيارة جديدة إلى مصر من بوابة شرم الشيخ، وأن يجعلها زيارة وتجارة، الزيارة كانت للقاء رئيس وزراء الكيان نفتالي بينيت، والتجارة لوضع اللمسات الأخيرة للاستحواذ على عدد من المشروعات والشركات العامة في مصر، مقابل تدفقات نقدية في حدود ملياري دولار.
وقبل أن تضع الإمارات دولارًا واحدًا، قرر نظام الجنرال المصري إجراء خفض مفاجئ لسعر صرف الجنيه المصري، ببلغ 16% من قيمته، ليمنح أموال الإمارات النسبة ذاتها كـ "هدية" على الصفقة المنتظرة، وفي المقابل لتذهب الأغلبية الساحقة من المصريين إلى الجحيم، مع موجة تضخمية قائمة بالأصل وتضرب كل ضروريات الحياة، ويزيدها القرار الأخير اشتعالا وانتشارًا.
لكن ماذا ستشتري الإمارات في مصر؟ هل ستوجه أموالها لبناء مصانع مثلًا لرتق الخرق في الموازنة المصرية العاجزة دائمًا، وامتصاص البطالة المتفشية في صفوف الشباب، ومنح البلد الذي تصفه بـ "الشقيق" فرصة أخرى لمواجهة التحدي الذي تواجهه؟ أم للاستثمار في مشروعات جديدة تتيح للبلد تدفقات نقدية تساعد على مجابهة فاتورة الواردات المرتفعة؟
في الحقيقة فإن أيًا من ذلك لن يحدث، ستدخل الإمارات لشراء مشروعات مصرية ضخمة، تربح أو تصدر.
طبقًا لما تم إعلانه عن مفاوضات الاستحواذ، فإن الشركة "القابضة" ADQ، أحد صناديق أبو ظبي السيادية تخطط لشراء حصص في كل من: شركة الخدمات المالية "فوري" أكبر شركة في مجالها بمصر، والبنك التجاري الدولي "C.I.B" أكبر البنوك المدرجة في شمال إفريقيا، بالإضافة إلى شركات "أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية" وشركة مصر لإنتاج الأسمدة "موبكو" وشركة الإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع، وكلها من الشركات الكبرى الرائدة في قطاعاتها محليًا وإقليميًا.
إحدى أهم الشركات التي يجري التفاوض حول بيع حصة منها، هي شركة أبو قير للأسمدة، وهي عملاق صناعي هائل، وفوق كل شيء تعتمد على تصدير الأسمدة ومنتجات اليوريا إلى الخارج، بجانب توفير حصة للسوق المحلية، وهي ليست شركة خاسرة، إذ حققت صافي ربح بلغ 3.2 مليار جنيه في الفترة من يوليو حتى ديسمبر 2021، مقابل 1.49 مليار جنيه ربح خلال الفترة المقارنة من العام المالي الماضي، أي إنها شركة رابحة مصدرة وقادرة على النمو.
شركة أبو قير للأسمدة مجرد نموذج على ما يجيد المال الخليجي عمله في أي مجتمع عربي، التفكيك وتدمير البنية الإنتاجية، لدولة لا تمتلك رفاهية أبو ظبي أو الإمارات، وبدون ما تبقى من أطلال شركات صناعية كبرى، كان الحال المصري سيكون أسوأ مما هو بالفعل، ومع الاستيلاء الإماراتي على البقية الباقية من المشروعات الإنتاجية، فلا يبدو أن أحدًا قد قرأ درس الكرامة على الإطلاق.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024