آراء وتحليلات
السيطرة على كيرتش: أول إنجازات موسكو
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
مع استمرار تقدم الآلة العسكرية الروسية نحو المدن الأوكرانية الكبرى لا سيما كييف، قطعت موسكو شوطًا طويلاً نحو تحقيق أحد أبرز أهدافها الحربية الرئيسية في أماكن أخرى.
في الأيام القليلة الماضية وفي الجزء الجنوبي الشرقي من أوكرانيا سيطرت القوات الروسية على ممر بري، يربط بين الاتحاد الروسي وشبه جزيرة القرم (التي استعادتها موسكو في العام 2014)، على طول شاطئ بحر آزوف، وهو أمر يقول عنه المسؤولون الروس إن موسكو ليس لديها نية للتخلي عنه، حتى بعد انتهاء العملية العسكرية.
ما هي أهمية هذا الممر البري بالنسبة لروسيا؟
في الحقيقة، تعد هذه الخطوة مهمة من الناحية الجيوسياسية لثلاثة أسباب: أولاً، انها تؤسس جسرًا بريًا إلى شبه جزيرة القرم من شأنه أن يوسع بشكل كبير طريق الإمداد إلى شبه الجزيرة عبر جسر مضيق كيرتش، الذي بنته روسيا قبل ذلك بسنوات.
ثانيًا، تتيح لموسكو أن تضمن بشكل أفضل إمدادات مياه كافية لشبه جزيرة القرم كونها تمكنت من السيطرة على بعض الخزانات والقنوات التي كانت تزود شبه جزيرة القرم قبل إعادة ضمها.
ثالثًا، أصبح بحر آزوف في الوقت الحالي على الأقل، محاطًا تمامًا بأراضٍ تسيطر عليها روسيا. وهذا يسمح لموسكو بالمطالبة بهذا الجزء المائي بالكامل داخل روسيا، دون أن يخضع للقانون الدولي، كما كان الحال عندما شاركت أوكرانيا جزءًا من الساحل. وهذا بدوره يعني أن البحرية الروسية ستكون قادرة على نقل المزيد من أصول أسطول بحر قزوين إلى بحر آزوف لاستخدامها في البحر الأسود أو أبعد من ذلك، بدلاً من نقلها ذهابًا وإيابًا عبر قناة "فولغا ـ دون"، في أوقات الأزمة، كما فعلت مرارًا وتكرارًا في السنوات الأخيرة.
ما هي المنافع التي تعود على موسكو من خلال سيطرتها على هذا الممر؟
عندما استعاد فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، تساءل الكثيرون عما إذا كان بإمكانه الاحتفاظ بها، نظرًا لافتقارها إلى اتصال مباشر مع الاتحاد الروسي. آنذاك توقع البعض أنه سيضطر إلى شن هجوم عسكري للاستيلاء على الأرض، على طول بحر آزوف، لضمان السيطرة الكاملة على شبه الجزيرة.
تفاقمت مثل هذه المخاوف بسبب الجفاف المزمن الذي شهده شبه جزيرة القرم في السنوات التي تلت ذلك، إذ ان نقص المياه لم يكن يعكس فقط تغير المناخ، ولكن أيضًا حقيقة أن كييف كانت عمدت الى قطع إمدادات المياه والتي تعد ضرورية وحيوية للزراعة والصناعة في شبه الجزيرة.
لكن العملية العسكرية التي نفذتها القوات الروسية شمال شبه جزيرة القرم، قللت ازمة المياه ـــ التي افتعلتها اوكرانيا سابقا ـــ بشكل كبير بعد أن استولت قواتها على سد كاخوفكا لتوليد الطاقة الكهرومائية، مما أدى إلى اعادة المياه الى الخزان الكبير الذي يغذي قناة شمال القرم.
ونتيجة لذلك، بدأت المياه تتدفق مرة أخرى، من نهر دنيبر إلى شبه جزيرة القرم اعتبارًا من 26 شباط/ فبراير الماضي، بعد أن فجر الجنود الروس السد الذي بنته أوكرانيا سابقا لمنع إمدادات المياه إلى شبه الجزيرة. ومع ذلك، حاولت القوات الأوكرانية دون جدوى استعادة السيطرة على سد كاخوفكا في 16 آذار/ مارس الحالي.
ماذا عن انعكاسات السيطرة على هذا الممر على بحر آزوف؟
على أرض الواقع، حققت موسكو مكاسب استراتيجية فائقة الأهمية من خلال وضع يدها على هذا الممر، حيث إن نجاح روسيا في إنشاء الجسر البري إلى شبه جزيرة القرم، يعني أيضًا أن بحر آزوف بات محاطًا بالأراضي الروسية أو تلك التي استولى عليها الكرملين، وهو ما يسمح للحكومة الروسية بالقول إن هذا المسطح المائي ـ فضلًا عن قضية مرور سفن الشحن عليه ـ لم يعد خاضعًا للقانون البحري الدولي، بل يخضع بالكامل لسيطرة السلطات الروسية.
فعلى مدى السنوات الثماني الماضية، أكدت موسكو حقها في هذا الاتجاه، لكن سيطرتها الفعلية على الممر البري الساحلي بين روسيا، وشبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو، سيحسم هذه المسألة.
زد على لك، إذا تمكنت موسكو من تثبيت سيطرتها، إما بحكم الأمر الواقع أو بحكم القانون، فستكون في وضع يمكنها من ضمان استمرار سلطتها على شبه جزيرة القرم وكذلك فرض إرادتها على جميع الشحنات الأجنبية ـ العسكرية والمدنية ـ على تلك المسطحات المائية.
ماذا عن خسائر أوكرانيا هناك؟
انطلاقًا مما تقدم، ستخسر أوكرانيا لصالح روسيا ليس فقط الممر الساحلي ولكن أيضًا طريق إمداد رئيسي إلى جزء كبير من جنوب شرق أوكرانيا، الأمر الذي يخلق معه ظروفًا اقتصادية وأمنية يمكن لموسكو الاعتماد عليها لاستغلالها بغض النظر عن أي صفقة لإنهاء العمليات العسكرية، وبالتالي، في ظل هذا الوضع الجديد، لا يمكن اعتبار بحر آزوف منطقة عرضية جانبية، إذ من المحتمل أن تكون حاسمة للخطط الروسية، ولهجوم روسي محتمل في المستقبل على مناطق مختلفة.
علاوة على ذلك، هناك عنصر استراتيجي إضافي لهذا الممر، وهو انه إذا تمكنت موسكو من الاحتفاظ بقبضتها على الجسر البري الساحلي بين شبه جزيرة القرم وروسيا، فسوف يكون لها سيطرة غير مقيدة على بحر آزوف بأكمله فيما يتعلق بالسفن الحربية. حينها من المؤكد أنها ستستمر في استبعاد السفن الغربية، وستعمد بالمقابل الى ادخال المزيد من السفن الخاصة بها الى هناك من أجل استخدامها في البحر الأسود وتوجيه رسائل تهديد لتركيا وحلفائها في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) إذا اقتضت الضرورة.
في السابق كانت قدرة روسيا محدودة على القيام بذلك، لذا وجّهت سفن بحر قزوين البحرية للداخل والخارج حسب الحاجة. لكن حاليا، من المحتمل أن تعيد تركيز بعض هذه السفن بشكل دائم في بحر آزوف وهو بالتأكيد تطور محبب لدى موسكو نظرًا للصعوبات التي واجهتها في تجريف قناة "فولغاـ دون" والتحديات التي ستواجهها إذا حاولت حفر قناة جديدة عبر شمال القوقاز.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024