آراء وتحليلات
هل يدفع الغرب روسيا لاستعادة الوجه السوفياتي؟
إيهاب شوقي
ترك غياب الفلسفات والأيديولوجيات فراغًا كبيرًا في الساحة الدولية، وأفرد مساحة كبيرة لانفراد الولايات المتحدة بالتلاعب بالمفاهيم والمصطلحات وتحريفها، ومن ثم حرف الصراعات عن مساراتها الأصلية إلى مسارات بديلة تصب في صالحها في نهاية المطاف.
ومع الأخذ بعين الاعتبار التحفظات على الاتحاد السوفياتي السابق، إلا أنه كان الأقرب وجدانيًا للمستضعفين والمناهضين للهيمنة، وقد سعى لتكريس ذلك في إطار صراع مع الغرب بإجراءات ومساعدات حقيقية لقوى التحرر الوطني والجيوش العربية في إطار حروبها مع الاستعمار ومع العدو الإسرائيلي، رغم علاقات احتفظ بها مع العدو وشهدت موجات من الفتور والقطيعة وفقًا لحالة الاستنفار والمقاومة العربية والتي كان يحرص عليها، ليقينه بأن العدو الصهيوني هو ذراع الغرب الإمبريالي في المنطقة.
الشاهد أن القيم والمبادئ، كان لها وزن كبير في الاصطفافات الدولية، ولم تكن القضايا بهذه الميوعة الراهنة والتي تكرست منذ السنوات الأخيرة التي شهدت انهيار الاتحاد السوفياتي وسياسات ميخائيل غورباتشوف تحت مظلة الوفاق الدولي مع أمريكا والغرب، وما تلاها من قطبية أحادية وانفراد أمريكا بالعرش العالمي.
ومنذ ذلك الحين وضعت أمريكا أيديولوجيتها الخاصة كمعيار للحكم على العالم، وامتلكت حق تصنيف الدول بين ما هو ديموقراطي وما هو ديكتاتوري ومارق، رغم أن معاييرها غير موحدة ديمقراطيًا، حيث يضم معسكرها أبشع الديكتاتوريات!
ولعل الأقطاب الصاعدة قد أولت الاهتمام ببناء الذات والتفرغ للردع على حساب استعادة الخطابات الأيديولوجية، فقد نحت الصين شيوعيتها جانبًا، وانطلقت في مسار العولمة واقتصاد السوق الحر، واعتمدت روسيا الجريحة بعد انهيار امبراطوريتها السوفياتية، على سياسات برغماتية لإعادة بناء الذات للوصول إلى مكانتها اللائقة.
ومع هذا الصعود الروسي والضربة الأولى للنظام العالمي الأحادي بالتدخل العسكري في أوكرانيا، استعادت أمريكا والغرب خطابات الحرب الباردة الأيديولوجية عبر عناوين يمكن أن نرصدها فيما يلي:
1- وصف الحرب الروسية بأنها حرب شخصية للرئيس بوتين للإيحاء بأنها مغامرة نازية على غرار توسعات هتلر وحربه على القارة الأوروبية، وترديد زعماء الغرب لنفس النغمة بتنويعات مختلفة.
2- خطاب الرئيس بايدن والذي يقول "لن نسمح للطغاة بأن يحددوا للعالم مساره والدول الديمقراطية تعمل على حشد العالم لدعم الأمن والسلام"، وهو ما يعني استعادة صريحة لخطاب أمريكا الأيديولوجي في الحرب الباردة وهو هنا يهدف لحشد الغرب وتوسيع المجال لاستهداف دول أخرى مقاومة للهيمنة ولا يخلو من تلميح للصين وغيرها.
3- خلق حالة جنونية من العزلة لروسيا وإجراءات إرهابية ثقافية وسياسية على غرار "المكارثية"، والتي سجنت الآلاف بتهم الشيوعية واستُغلت في تصفية الحسابات بمجرد الشبهة دون دلائل.
هنا نحن أمام عدة حقائق ينبغي إلقاء الضوء عليها باختصار:
أولًا: هناك أزمة غربية عكستها عدة بيانات لمؤتمر ميونيخ للأمن في السنوات الأخيرة، وتمحورت عبر الغرب وتراجع قوته الناعمة لحساب قوى صاعدة، وتراجع التأثير الثقافي والقوة الناعمة الغربية وخطابها الديمقراطي المستهلك، وهو ما يحتاج لشيطنة المقاومين للهيمنة واستعادة زخم الدعاية الغربية، وهو ما وجدت به أمريكا ومن خلفها الغرب الحرب الروسية فرصة سانحة، وخاصة بعد ان كاد التراجع يعصف بالعلاقات الأمريكية الأوروبية التاريخية.
ثانيًا: هناك تراجع للأنظمة الليبرالية الجديدة في أوروبا لحساب اليمين القومي في عدة بلدان مثل فرنسا وألمانيا ودول أوروبا الشرقية، وهذا اليمين يميل للرئيس بوتين ولا يخفي إعجابه به، وهو ما أدى إلى تصاعد حدة الحملة على روسيا وشيطنتها وبالتالي شيطنة المعجبين بالرئيس بوتين وكسب أصوات انتخابية وفقا لذلك!
ثالثًا: هناك محاولات لافتة لتفتيت المعسكر الشرقي بمحاولة التحرش بالصين وحشرها بين خيارين سيئين، وهما، إما دفعها لاتخاذ موقف حاد من روسيا للوقيعة بينهما، أو إعلان اصطفافها الصريح وبالتالي فرض عزلة عليها! وكذلك محاولات لا تخفى للوقيعة بين روسيا والصين عبر تعقيد الملف النووي والإيحاء بأن روسيا هي التي تعطل الاتفاقات، رغم الحرص الروسي - الإيراني المعلن على التنسيق وتفادي الخلافات.
رابعًا: ربما يشكل غياب الأيديولوجية قوة برغماتية للتحالف الصيني - الروسي بلحاظ الخلاف الأيديولوجي الذي تسبب في العداء بين الصين والاتحاد السوفياتي وفرق الجهود وسمح لأمريكا بالانتصار، لكنه يسبب نقطة ضعف لاصطفاف الشعوب خلف هذا القطب لأن الانحياز للشعوب غير واضح مع تغليب المصالح الاقتصادية والتي تجبر روسيا والصين على التعاطي بازدواجية في عدد من الملفات.
والمحصلة هنا، أننا في حرب باردة جديدة بعسكرها الغربي ذي الخطاب الأيديولوجي المخادع القائم على ادعاء الديمقراطية وحقوق الإنسان ورفع لافتات حق يراد بها باطل، بينما معسكر الشرق لم يبلور خطابًا أيديولوجيًا، ولم يبلور تحالفًا واضحًا.
معسكر الشرق هنا يضم الصين التي تتبع سياسات برغماتية صريحة وتحرص على التعامل مع جميع الأطراف والفرقاء، ويضم في بعض محطاته إيران ومحور المقاومة (المعسكر الوحيد الذي يمتلك أيديولوجية التحرير والانحياز للمستضعفين وحتمية زوال الكيان الصهيوني)، ويضم روسيا الحائرة في بلورة أيديولوجيتها، فهي وريثة لاتحاد ناصر حركات التحرر بينما تحرص على التعاطي بسياسات برغماتية، وهي تملك قيماً مناقضة للغرب وثقافته المنحلة والدموية، ولكنها لم تتخلص كليًا من التعامل بقواعده ولم تحسم خطابها بعد.
ربما حشد المرتزقة والإرهابيين في أوكرانيا لمحاربة الروس، يوضح أن روسيا وسوريا في بوتقة واحدة وهو ما يعمق التحالف مع سوريا وقضايا التحرر.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024