آراء وتحليلات
بعد 43 عامًا على الانتصار.. أين أصبحت إيران الثورة والدولة والنظام؟
محمد أ. الحسيني
لا ينفصل الحديث عن انتصار الثورة الإسلامية في ذكراها الثالثة والأربعين عن الإمام الخميني الراحل، ولا ينحصر في مراحل ما بعد الإنتصار وتأسيس الحكومة الإسلامية، بل لا بدّ من استعادة سريعة لأهم المحطات التأسيسية لهذا الإنتصار، وخصوصًا منذ العام 1941 حين أطلق الإمام مشروعه ضمن كتابه "كشف الأسرار"، حيث يؤكد أهميّة وجود بديل للأنظمة التي حكمت باسم الإسلام، فهذه الأنظمة لم تكن سوى كيانات ديكتاتورية جعلت أهواءها الفردية أساسًا للحكم بديلًا عن الدين والقرآن، والبديل الحتمي تشكيل الحكومة الإسلامية وفق مبدأ "ولاية الفقيه".
ما قبل الانتصار
على مدى عشرين عامًا خاض الإمام غمار عواصف عاتية ضربت المجتمع الإيراني، مواجهًا الأفكار الغربية التي حاولت أن تنسج شكلًا هجينًا للنظام بحجّة التمدّن وقصور الإسلام والنظرية الدينية عن القدرة على بناء نظام اجتماعي - سياسي متكامل، فوقف في وجه جماعات الليبرالية والقومية والشيوعية، ونبّه من النظريات المشبوهة لدعاة التوفيق والتلفيق بين الإسلام ونظريات الماركسية والاشتراكية ودمجها بالنظريات الغربية "التنويرية"، واضطر في كثير من الأحيان إلى خوض مواجهة صامتة مع بعض رموز الحوزة الدينية، الذين كانوا يهادنون النظام بحجة عدم القدرة على حسم الإنتصار من جهة، ومواجهة صادحة مع بعض المعمّمين الذين صنعهم الشاه لتخريب المسار الديني وتشويه صورته ومنهجه من جهة ثانية.
إسقاط الشاه
تسلّم الإمام الخميني سدّة المرجعية العليا في الحوزة الدينية في قم عام 1961، لتبدأ إيران حقبة جديدة في تاريخها، وتحرّك الإمام ليستثمر جهوده التي بذلها على مدى عشرين عامًا مع تلامذته وزملائه، أمثال المفكّر الشهيد الشيخ مرتضى مطهري والعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي والسيد الشهيد محمد الحسيني البهشتي، في بناء الفرد وتحريره من شوائب الأفكار الغربية، وترسيخ مفاهيم الإسلام الأصيل، حتى اطمئن إلى جهوزية نواة الثورة، فكانت المواجهة المباشرة الأولى في انتفاضة 15 خرداد / حزيران 1963، وما تلاها من ارتكاب نظام الشاه لمجزرة المدرسة الفيضية، ليعلن بعد ذلك أن "التقيّة حرام"، وكان هذا إعلان مباشر بأن المرحلة باتت ناضجة ومؤهلة للتحرّك باتجاه إسقاط الشاه بلا مهادنة أو مسايرة، ولم تخبُ حركة الإمام، وقاد جموع العلماء والنخب وشرائح الشعب من منفاه في كلّ من تركيا والعراق وفرنسا، ليحقّق الإنتصار العزيز ويعود إلى إيران قائداً وإماماً لدولة إسلامية نقيّة صافية، لا شرقية ولا غربية.
تحدّيات النهوض
أحدث انتصار ثورة "الولي الفقيه" الخميني زلزالاً بكل ما للكلمة من معنى، ليس داخل إيران فحسب بل في المنطقة والعالم أجمع، وليس في هذا الكلام مبالغة أو ترفًا رومانسيًا في سياق المديح الأدبي، بل هو توصيف للإرتدادت التي أعقبت هذا الإنتصار، وحملت معها تحدّيات كبرى ازدحمت بمحاولات القضاء عليها، بدءًا من فرض الحصار الكوني على إيران منذ انتصارها في العام 1979، مرورًا بالحرب العالمية التي شنّها صدام حسين نيابة عن الدول الكبرى وانتهت بالقرار 598، وامتدادًا مع المساعي الراهنة للحلف الأمريكي – الأوروبي – الإسرائيلي – العربي، التي تهدف إلى تطويعها وجعلها دولة محلّية محدودة التأثير، أو تابعة لأحلاف الشرق أو الغرب، من خلال ضرب مكامن قوتها والحدّ من تعاظم هذه القوة. ولكنّ إيران نجحت في تثبيت كينونتها كدولة مقتدرة فاعلة، تمتلك العوامل الجوهرية في أن تكون في قلب المعادلات الإقليمية والدولية، واستطاعت أن تفرض وجودها ومحورية دورها على المسرح الدولي، وتمكّنت من إجهاض كلّ محاولات القضاء عليها بمؤامرات الداخل والخارج، اعتماداً على وثاقة الإرتباط بين القيادة والحكومة والمؤسسات والشعب.
القيادة والإقتدار
لم تنجح إيران في تحدّيات المواجهة والصمود لولا أنها امتازت، ثورةً ودولةً وحكومةً، بمجموعة من العوامل التي مكّنتها من الحفاظ على ديمومتها كنظام إسلامي حاكم، وأهمها وجود القيادة المخلصة والحكيمة، المتمثّلة اليوم بالإمام السيد علي الخامنئي، التي تابعت النهج الإسلامي الصحيح والسليم الذي اعتمده الإمام الخميني؛ فقد حفل التاريخ بالكثير من التجارب التي تربط انحراف الأمم بانحراف قياداتها، وهذه هي نقطة الإفتراق الفعلية التي اعترت الأنظمة "الإسلامية" بين المبدأ والفعل، وبين النظرية والتطبيق. والعامل المهم الآخر هو الإستمرار والتطوّر، وهذا ما تمتاز به الجمهورية الإسلامية في إيران من حيث التأسيس والبناء أولًا، وثانيًا من حيث القدرة على المتابعة والتطوّر في المجالات المختلفة، الفكرية والإجتماعية والعلمية والصناعية والاقتصادية، وغيرها من المجالات التي تكفل استقلالية القرار والتصرّف، والحفاظ على مواطن القوة والإقتدار.
إيران الأمّة
قاد الإمام الخميني إيران في مواجهة الشرق والغرب، وحيدًا مع قلّة الناصر والمعين كما الإمام الحسين (ع) في كربلاء، واستطاع أن يترجم مقولة "انتصار الدم على السيف" بشكل نظري وعملي، ولم يقيّد مشروعه في التنظير لتأسيس دولة تعتنق الفكر الشيعي، بل تعملق في الطرح ليقدّم إيران نموذج الدولة الأمميّة التي تعتنق الإسلام فكرًا ونهجًا وتطبيقًا، وتنادي بتأمين العدالة للبشر، وتطمح لتحقيق سعادة الإنسان في المجتمع ككلّ، وهذا لا يكون إلا بتحرّك الشعوب لإزالة الحكومات المستبدّة بمصائرها، وبذلك أصبحت إيران موئل الحركات التائقة إلى التخلّص من نير العبودية والتحرّر من الإحتلال في العالم، سواء أكان مباشرًا في السياسة والعسكر والاقتصاد أم غير مباشر في التربية والثقافة والإجتماع، وهذا ما فرض على إيران تحدّيات إضافية، وجعلها كدولة وشعب ومؤسسات تحت مجهر الإستهداف الغربي، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على وجه الخصوص.
محور المقاومة
اتخذت إيران منهج نصرة المستضعفين في العالم من أجل استعادة حقوقهم، ليس من باب الواقع المفروض عليها، ولا من باب التحالفات المصلحية التي تضع إيران ضمن التوازنات المقيّدة، بل من باب التبنّي والخيار، الذي كان واحدًا من الشعارات الرئيسية التي رفعها الإمام الراحل، ولا يزال حاضرًا في صلب السياسات التي تنتهجها إيران، باعتبارها رائدة الشعوب وحركات التحرّر، وأصبحت بعد ثلاثة وأربعين عامًا قائدة محور المقاومة والممانعة ضد قوى الإستكبار الغربي و"إسرائيل" وأتباعها من عرب التطبيع والإستسلام، بدءًا من فلسطين المحتلة مرورًا بلبنان وسوريا والعراق وصولًا إلى اليمن، وهذا يؤكد بدون شكّ أو نقاش بأن رسالة الثورة الإسلامية آخذة بالإنتشار والتمدّد في أرجاء العالمين العربي والإسلامي، وبأن إيران التي أسقطت نظام التبعية الشاهنشاهي، وخرجت من موقع الندّية المباشرة مع قوى الإستكبار، لتصبح في موقع المبادرة وصنع الفعل والتحكم والسيطرة.
انقلاب التاريخ والجغرافيا
الحديث عن الثورة الإسلامية الإيرانية بخلفياتها وأهدافها، ونتائجها بعد ثلاثة وأربعين عامًا على انتصارها، يستلزم تخصيص كثير من البحوث والدراسات، فهي ليست وليدة ردّة فعل، أو مجرد انتفاضة شعب قام على حكم ظالم، بل هي ترجمة حقيقية لمسار يزيد عمره عن 1400 عامًا، تأسّس منذ نزول الآية الأولى على الرسول الأعظم محمد (ص) وبعثته النبوية الشريفة، مرورًا بالمخاضات الكبيرة التي مرّت بها الأمة الإسلامية في تجارب الأئمة (ع)، وما رافق عهودهم من تجلّيات مختلفة في دول وحكومات وسلطنات وإمارات وممالك، ابتعدت في نظرياتها وتطبيقاتها عن المحدّدات الإلهية، وأمعنت في تشوّهات تفسير الدين والرسالة، وفي انحرافات فهم العقيدة والمنطلقات، وصولًا إلى عصر الإمام روح الله الموسوي الخميني، الذي لم يكن ثائرًا تزعّم حركة اعتراضية على حكم سلالات الشاهنشاهية، بل كان قائدًا لإنقلاب أعاد كتابة التاريخ، وصحّح رسم الجغرافيا، وقوّم أسس بناء المجتمع المحمّدي الأصيل، وأسّس لنهج الإقتدار والنموذج الحقيقي للتحرّر والسيادة والإستقلال.
ذكرى انتصار الثورة الاسلامية في ايران
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024