آراء وتحليلات
قصة المختبرات البيولوجية الأميركية في كازاخستان
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
منذ انحلال الاتحاد السوفياتي السابق، لم توفر الولايات المتحدة الأميركية جهدًا أو وسيلة إلا واستخدمتها للتغلغل وتثبيت نفوذها في جمهوريات آسيا الوسطى، إما بهدف استغلالها كمنصات جيوسياسية لتهديد موسكو من جهة، أو الاستفادة من مواردها وثرواتها الطبيعية المتعددة، أو - وهنا الأهم - استعمالها كحقل تجارب لأسلحتها، أو كمخزن أو مختبر للمواد الفائقة الخطورة كما هو حاصل ويحصل في كازاخستان.
غني عن التعريف أن كازاخستان وقبل الأحداث الأخيرة، كانت تعتمد سياسة تحقيق التوازن مع القوى العظمى. وبالرغم من تحالفها الوثيق مع موسكو، إلا أن الحكومات الكازاخستانية المتتالية حرصت على الروابط الوثيقة مع الولايات المتحدة التي استثمرت شركاتها خصوصًا "إكسون موبيل" و"شيفرون" عشرات المليارات في قطاع الطاقة. هذا في العلن. أما في الخفاء، فلواشنطن استثمارات غامضة وخطيرة، تتمثل بالمختبرات البيولوجية الأمريكية.
ما قصة المختبرات البيولوجية الأميركية في كازاخستان؟
في 23 تشرين الثاني الماضي، عقد مؤتمر دولي تحت عنوان "المختبرات البيولوجية الأمريكية: تهديدات للفضاء الأوراسي في منطقة آسيا الوسطى"، في عاصمة جمهورية قيرغيزستان بيشكيك، من قبل موقع "ريدوس" الروسي، ومؤسسة "التعاون الإنساني الشبابي... اوراسين نيو وايف" the Eurasians – New Wave Foundation for Youth Humanitarian Cooperation، وبوابة معلومات "Kundemi".
أثار هذا الحدث الذي شارك فيه خبراء من عدة بلدان (بما في ذلك روسيا وأوكرانيا وبلغاريا وصربيا وأرمينيا وجورجيا) استجابة إعلامية واسعة النطاق، وقد ناقش خلاله الحاضرون قضايا تتعلق بأنشطة المختبرات البكتريولوجية الأمريكية في آسيا الوسطى، خصوصًا في كازاخستان.
يسرد رئيس الحركة الاشتراكية في كازاخستان وعضو التحالف الدولي لحظر الأسلحة البيولوجية أينور كورمانوف (كان قد شارك في المؤتمر) الرواية الحقيقية لهذه المختبرات قائلًا: بدأ كل شيء في أوائل تشرين الثاني الفائت، حين ظهر نص مشروع مرسوم حكومي وقعه رئيس الحكومة الكازخستاني السابق عسكر مامين، بشأن إنشاء منشأة في قرية غفارديسكي على الموقع الإلكتروني التابع لوزارة الصناعة وتطوير البنية التحتية في كازاخستان".
جاء في الوثيقة الرسمية أن الاسم الكامل للمنشأة هو "مختبر BSL-4 لجمع السلالات الخطرة وشديدة الخطورة وتخزينها تحت الأرض". آنذاك شرح وزير الصناعة بيبوت أتامكولوف في مذكرة تفسيرية أن بناء المنشأة "مخطط لغرض دراسة أعمق لمسببات الأمراض الشديدة العدوى، والتي تسبب أمراضًا خطيرة ومميتة، لا تتوفر علاجات ولقاحات مضادة لها".
عند التدقيق في نص المشروع قد يبدو من الخارج أنه كازاخستاني بحت. ولكن في القسم 3 من الوثيقة يكمن اللغزّ حيث يتبين أن التكاليف المالية من ميزانية الدولة لبناء منشأة خطرة لن تكون مطلوبة من الدولة. أي أن بناء مختبر ومنشأة تخزين تحت الأرض سيتم دفع ثمنها من مصادر خارجية، من دولة أجنبية. وهنا يقول كورمانوف "ليس من الصعب التكهن بأن هذا المصدر هو البنتاغون".
ما هي الجهة التي تمول وتنفذ هذه المختبرات؟
منذ اللحظة التي تم فيها تصميم المنشأة حتى ظهور مشروع المرسوم الحكومي، أشرفت على هذا العمل DTRA - وكالة الدفاع المعنية بخفض التهديدات التابعة لوزارة الحرب الأمريكية.
المدافعون عن أميركا في كازخستان، تسلحوا بالنفي لحقيقة أنه لا يوجد أميركيون في المنشآت وأن هذه المختبرات لا علاقة لها بالبنتاغون. لكن كورمانوف واجههم بتصريحات تعود للجيش الأمريكي نفسه.
ففي أوائل أيلول 2020، وبعد أن نفت المؤسسات الرسمية لكازاخستان وجود الجيش الأمريكي في منشآتها، أعلن رئيس مركز مكافحة الأمراض لمنطقة آسيا الوسطى في السفارة الأمريكية في كازاخستان دانيال سينغر رسميًا أن العمل مع جميع المختبرات ومعاهد البحوث الكازاخستانية الستة مستمر. وكشف كورمانوف أن الأميركيين يشترون معدات جديدة. وهو ما دحض تمامًا كل التأكيدات السابقة للسلطات الكازاخستانية بعدم صلة واشنطن بهذه المختبرات.
عمليًا لم تكن هذه المنشأة "مختبر BSL-4"، الوحيدة التي تعتزم أميركا اقامتها، إذ كان تم بناء المختبر المرجعي المركزي (CRL) في ألماتي بالكامل بمشاركة الشركات الأمريكية، بما في ذلك الجيش. ولا يزال بعضها، مثل شركة الهندسة والبناء CH2M Hill، يحتفظ بالمجمع بموجب عقود DTRA، السارية المفعول حتى عام 2023. وقد جرى افتتاحه في العام 2016.
تكشف تقارير DTRA عن تخصيص مبلغ 400 مليون دولار واحد لبناء المختبر المركزي CRL، إضافة الى تمويل البرامج البحثية. ليس هذا فحسب، غالبًا ما كان علماء الأحياء العسكريون الأمريكيون يسافرون إلى كازاخستان في رحلات عمل، ويشاركون في مشاريع مختلفة.
يقول خبراء كازاخستانيون شاركوا في المؤتمر "ربما الآن لا يوجد مواطنون أمريكيون بين الكادر الفني، لكن التحكم في المرافق وإدارتها بقي للأمريكيين، لأن التدفقات المالية لصيانة وتشغيل هذه المرافق تأتي من واشنطن".
إضافة الى ذلك، هناك مختبر جديد قيد الانشاء، حيث يتم تنفيذه حاليًا في كازاخستان وطاجيكستان. أما المقاول فهو نفسه DTRA - وكالة البنتاغون، التي تجري جميع البحوث البيولوجية العسكرية المتعلقة بالبحث والتعديل الإضافي في المختبر لسلالات من الأمراض الأكثر خطورة. ومن المقرر أن يبدأ بناء المنشأة نفسها في أوائل هذا العام، على أن يجري الانتهاء منها، في الربع الأخير من عام 2025.
ستتمتع هذه المنشأة بالمكانة الدولية كمستودع لمسببات الأمراض التي جمعها علماء الأحياء العسكريون الأمريكيون حول العالم. يقول ناشطون كازاخستانيون موالون لروسيا إنه "سيتم تخزين سلالات مختلفة من أخطر الفيروسات في المختبر". ويضيف هؤلاء "لا توجد ببساطة تدابير حقيقية لمواجهتها. اتضح أن DTRA ستجلب كل هذه العوامل التي تسبب الأمراض، ليس فقط للتخزين، ولكن أيضًا للدراسة والتحديث والاختبار على البشر والحيوانات".
الأمور لا تتوقف عند هذا الحدّ، إذ يشارك معهد أبحاث مشاكل السلامة الحيوية في كازاخستان (وهو يتبع الآن إلى لجنة العلوم التابعة لوزارة التعليم والعلوم، والتي تعمل بشكل أساسي على برامج البحث في البنتاغون)، ومعهد مشاكل السلامة الحيوية في طاجيكستان، في تنفيذ أوامر البنتاغون.
ما يجدر معرفته، أن كل المرافق (أي المختبرات ومعاهد البحوث العلمية) في كازاخستان، تتبع رسميًا فقط لوزارات الزراعة، والتعليم والعلوم في هذا البلد، والمثير أن أكثر من نصف ميزانيات بعضها، تأتي من الأموال التي خصصها البنتاغون لأبحاث مختلفة.
ولكن هل سيستمر هذا العبث الأميركي في كازاخستان؟
بالنظر إلى كل ما سبق، من المنطقي التكهن بأن الجانب الكازاخستاني سيواصل تحت أي ذريعة تبرير عمل المختبر المرجعي المركزي في ألماتي والمؤسسات التي تخدمه. وهذا يعني في الواقع أن القواعد العسكرية الأمريكية مجهزة بأسلحة بيولوجية ومتنكرة في شكل معاهد ومختبرات بحثية "سلمية". لأن هذه القضايا في كازاخستان تعتبر نوعًا من الضمان لاستقلالها عن موسكو وبكين.
في مقالته الأخيرة "مختبرات الولايات المتحدة في كازاخستان: حقائق ضد الدعاية"، يستشهد الباحث المعروف عن هذه المشكلة، رئيس نادي التحليل الأوراسي نيكيتا ميندكوفيتش، بالعديد من الوثائق التي تؤكد تورط علماء الأحياء العسكريين الأمريكيين في أنشطة المختبرات الكازاخستانية. ويشير إلى "أنه في ربيع العام الماضي، اضطر الجانب الكازاخستاني إلى الانتقال من مرحلة الإنكار إلى مناقشة جادة للمشكلة. وفي أيار 2021، بدأت المفاوضات الروسية الكازاخستانية بشأن الحد من عمل العسكريين الأجانب في الجمهورية".
الغريب، أنه وبالرغم من خطورة هذه المختبرات، فإن الصحفيين المرتبطين بوكالات الحكومة الأمريكية والمعتمدين عليها ماليًا يروجون للحفاظ على المختبرات البيولوجية الأمريكية في كازاخستان. ليس هذا فقط، بل إن المفاجأة الأكبر، تتمثل في أن بعض علماء الأحياء الكازاخستانيين، يدافعون عن الوجود الأميركي، والأصعب أنهم يشاركون في البرامج البيولوجية العسكرية لحلف شمال الأطلسي، بحسب أحد الخبراء العسكريين الغربيين.
في المحصلة، منذ عدة سنوات، يطالب الخبراء الدوليون في مجال الطب وعلم الأحياء والصحفيون والنشطاء الاجتماعيون والسياسيون الذين يدعمونهم، بمعلومات حول أنشطة أكثر من 400 مختبر بيولوجي أمريكي تعمل تحت "سقف" البنتاغون والموجودة فعليًا في جميع أنحاء العالم، خصوصًا بالقرب من الحدود الإستراتيجية للدول.
وبما أن لواشنطن اليد الطولى في لبنان، فالأمل معقود، على أن يكون وطننا بعيدا عن مخططات ومشاريع اميركا الخبيثة، وخصوصًا أن أغلبية حكام هذا البلد مستعدون لتقديم سيادة هذا البلد وأرضه على طبق من ذهب ارضاءً للسيّد الاميركي.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024