آراء وتحليلات
ثمن الكرامة: الدرس المصري من حقبة عبد الناصر
أحمد فؤاد
"الثمن الذي ندفعه من أجل الكرامة فادح، لكن الثمن الذي سندفعه في حال الذل أفدح".
جمال عبد الناصر
تمر في هذه الأيام الذكرى الرابعة بعد المائة لميلاد الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، ذكرى عزيزة يزداد فيها الإحساس العام - في مصر بالذات - بجسامة الفقد وشعور النقص والفقر المسيطر على الفضاء السياسي المصري، عقب رحيل الرجل الذي مثّل أحلام بلده وجسد آمالها وسار طوال سني حكمه في طريق واضح، مهتديًا بالأماني المصرية والعربية في بناء دولة عربية قوية قادرة، يستطيع فيها كل إنسان تحقيق ذاته، ولا ترتهن لإرادة غربية.
ولعل أنصع الذكريات التي تغازل الذهن العربي، في تاريخ عبد الناصر كله، هو قضية تأميم قناة السويس، وما ارتبط بها من إرادة مصرية عارمة في بدء معركة التنمية المستقلة، المرتكزة على الذات، وما تلاها من بناء السد العالي كشاهد أوفى على الانتصار، وما مر خلالها من العدوان الثلاثي على مصر، وقبل كل شيء الصمود الشعبي الهائل في وجه كل خطة غربية للإخضاع أو كسر الإرادة.
القصة باختصار تروي حكاية نظام حكم ثوري وشاب، زادته تجربة الحكم بعد حلم الثورة قوة وارتباطًا بالناس، يريد بناء نموذج جديد للاستقلال الوطني قائم على تنمية اقتصادية - اجتماعية شاملة، بعيدة عن السيطرة الدولية والاستقطاب الأميركي، ويصمم على تلبية التحديات الحقيقية للأغلبية الواسعة من جماهير شعبه، كطريق وهدف في آن.
كانت اللحظة الأكثر إلهامًا لمصر عبد الناصر حين تقرر تأميم قناة السويس. وروى الصحفي العربي الأشهر محمد حسنين هيكل كواليس اجتماع ناصر مع مجلس وزرائه، قبل ساعة من إعلان القرار رسميًا في 26 يوليو/تموز 1956، وكيف واجه مخاوف الطبقة السياسية التي كانت ما تزال رهينة الخوف من بريطانيا، فضلًا عن الولايات المتحدة، ووصل الذعر بأحد الوزراء إلى طلب ضرورة الفصل بين قرار تأميم القناة وسحب جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي لعرض تمويل السد العالي مصحوبًا ببيان مهين لمصر، لكن الرد الفوري من عبد الناصر كان: "هناك اعتبار كرامة وطنية يقتضي الرد على الإهانة الأميركية"، في موقف حاسم لرجل رفض أن يبتلع محاولة الإذلال الأميركية ويصمت.
قراءة معركة العدوان الثلاثي من جديد ليست ترفًا ولا غوصًا في انتصارات ماضية، ولا هي تاريخ فات وقته، الحقيقة أنها هي المعركة الدائمة المفروضة على كل شعب عربي، وكل قيادة عربية، تحافظ على كرامتها وكرامة أوطانها، هي معركة اليوم واللحظة، وفوق كل شيء فالرسالة الأميركية تتجدد بشكل أو آخر، ولا تريد في هذه المنطقة أندادًا، بل تفضل دائمًا العبيد.
لبنان اليوم، وفي القلب منه المقاومة وحزب الله، يخوض معركته الجديدة مع واشنطن، وأيضًا في مواجهة أقطاب الماضي وأذنابه، من يتخيلون أن الحياة دون الرضا الأميركي مستحيلة، من يرفضون دفع ثمن الكرامة، لأنهم بالفعل لا يدركون قيمتها بالأساس، وهذا هو لب المأساة الحالية في لبنان.
لا يدرك المنافق المرجف، والملتحف بالأعلام الأميركية والسعودية أن مقاومته الشريفة، خرجت ذات يوم مشرق ساطع بالكرامة، وبكلمات قليلة العدد عميقة التأثير، على لسان سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، لتكسر كل إرادة صهيونية في المواجهة، ولتضع هذا الكيان الهش في ركن الحلبة بلا قدرة على الحراك، ثم كسر السيد ما كان يراد للمنطقة على يد الأميركي، وأعلن بدء استيراد المشتقات النفطية من الجمهورية الإسلامية، ليجنب بلده ويلات الحصار، ويثبت من ناحية أخرى قدرة وقوة النموذج الذي يمثله.
كان هذا الرد من السيد هو رد كل عربي وكل شريف، ونطق به الرجل الذي تجسدت فيه الإرادة العربية في أعظم تجلياتها.
دخل الحزب إلى معركة الحصار، كما دخل في كل معركة مفروضة عليه، سواء من الأميركي والصهيوني أو من أعوانهما العرب، مسلحًا بالإيمان واليقين، والأهم أنه أخذ دور دولة كان يراد لها أن تظل غائبة، ومارس المقاومة كفعل على صفحة الحياة اليومية للناس، وقدم المثل والقدوة والمدى الذي يمكن أن تبلغه حركة تحيا بالجهاد في كل سبيل أمامها.
عبر لبنان معركته الأولى، ووفر الحزب المحروقات قبل الشتاء القاسي الحالي، لكن مخطئ من يظن أن لبنان سيكون في مأمن من الخطط الأميركية، والراغبة بشدة في إعادة عقارب الحصار إلى الوراء، وتحطيم هذا النموذج الفريد في الانحياز والإنجاز لشعبه وبشعبه، عبر تهويل آثار الأزمة الاقتصادية وإلقاء تبعاتها ونتائجها المهولة على الشارع اللبناني.
الغريب أن الطبقة السياسية اللبنانية، في أغلبها، تحاول الإيحاء بأن الأزمة الحالية في لبنان نتاج لوجود حزب الله أو سلاح حزب الله. وفضلًا عن غيابها، فإن الدولة بأجهزتها ومؤسساتها لا تريد أصلًا أن تعمل في هذه الظروف الصعبة، والتي تزيدها أزمة تفشي جائحة كورونا وآثار الكساد العالمي ترويعًا.
ويزيد من عمق الأزمة الجارية في لبنان، وآثارها الفادحة على المستقبل، حقيقة أنها تركت طويلًا تنتظر دون قرار حاسم، وفوق كل شيء، أشاعت أعراض الأزمة جوًا مجتمعيًا كئيبًا وثقيلًا، مع العجز عن التعامل مع التضخم المنفلت والذي طال كل ضروريات الحياة وأساسياتها.
ومع سوء التعامل الشديد من جانب المؤسسة النقدية "مصرف لبنان المركزي" فإن المناخ كله دفع إلى شعور عارم بالمرارة، مع التوهم بأن المشكلة الاقتصادية هي مصيبة نزلت فجأة على الرؤوس، فأيقظت الأحلام على نوبة فزع مروعة، لكن المؤكد أن الأزمة قائمة منذ زمن طويل، انّما المسكنات كانت تقوم بدورها المفترض والمطلوب بنجاح كامل، وحين قررت أميركا أن توقف الجرعات، فإذا الألم وحده هو الحقيقة الباقية في الأجواء.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024