آراء وتحليلات
السياسة الخارجية الالمانية الجديدة: نهاية عهد التساهل مع الصين
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
قد لا يكون "حزب الخضر الالماني" العائد بقوة الى الساحة السياسية الالمانية، فأل خير على الصين، إذ ان وجوده في قيادة السياسة الخارجية، يرجح احتمال أن تكون برلين أكثر حزماً وتشدداً مع بكين، مما كانت عليه في عهد المستشارة انجيلا ميركل التي طالما اتهمت بمغازلة الصين والتساهل معها لا سيما في عدة قضايا، أبرزها حقوق الانسان.
وللتأكيد على أن الحقبة القديمة انتهت، وأن المانيا مقبلة على تعديل تعاطيها مع هذا البلد أقله على مستوى السياسة الخارجية، اختارت رئيسة الدبلوماسية الالمانية الجديدة أنالينا بربوك (في ظل الحكومة الائتلافية بقيادة المستشار أولاف شولتز)، تدشين عهدها ــ وبعد ايام قليلة من تسلمها منصبها ــ بالتصويب على بكين.
فجأة ومن دون مقدمات، وسابق انذار، فتحت بربوك النار على بكين، موضحة أنها لن تواصل مسار السياسة الخارجية لميركل. وتعهدت بربوك عضو "حزب الخضر" ــ من منتقدي الصين البارزين، والمؤيدين لاعتماد "الصرامة" مع بكين ـــ بوضع حقوق الإنسان في قلب الدبلوماسية الألمانية.
وانتقدت بربوك في مقابلة مع صحيفة TAZ الالمانية معاملة الصين للأويغور في شينجيانغ، وتحدثت علانية ضد اعتقال الصحفي الصيني تشانغ زان، ومعاملة نجمة التنس بينغ شواي التي كشفت عن أنها تعرضت لـ"انتهاكات جنسية" من قبل سياسي رفيع سابق، ومنذ ذلك الوقت تفاقم القلق بشأن مكان وجودها وسلامتها الشخصية. وقالت "الصمت البليغ ليس شكلًا من أشكال الدبلوماسية على المدى الطويل، حتى لو كان ينظر إليه البعض بهذه الطريقة في السنوات الأخيرة".
لم تكتف بربوك بذلك، بل ابتكرت حلولا لـ"انتهاكات حقوق الإنسان الصينية"، ألا وهي قيود الاستيراد، فقالت للصحيفة: "علينا نحن الأوروبيين أن نستخدم هذه الرافعة في السوق الداخلية المشتركة للاتحاد الأوروبي".
وماذا عن موقف الصين؟
لم يمر كلام وزيرة الخارجية الالمانية الجديدة مرور الكرام في بكين، بل ترك أصداء سلبية أثارت قلقها، حيث دعت السفارة الصينية في برلين، السياسيين الألمان الأفراد (وهنا نلاحظ استخدام مصطلح افراد للدلالة على حصر الصين المشكلة بشخص وزيرة الخارجية) للنظر في العلاقات الصينية الألمانية "بموضوعية وشاملة" و"تكريس طاقتهم أكثر لتعزيز التعاون العملي بين الجانبين"، وطالبت السفارة "ببناء الجسور بدلاً من اقامة الجدران".
ولمعرفة خلفيات كلام بربوك فلنعد الى اتفاق التحالف، الذي وقع عليه "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" و"حزب الخضر" الذي منح السيطرة على السياسة الخارجية الألمانية لأول مرة منذ 16 عامًا.
يشير الاتفاق إلى الصين على أنها "خصم منهجي" لأول مرة. ويدعو الدول التي تملك أسلحة نووية مثل الصين، الى نزعها، والحد من سباق التسلح القائم في غير دولة من العالم. كذلك تشدد الاتفاقية على صياغة العلاقات مع الصين على أساس الشراكة والمنافسة على حد سواء، مع التعاون حيثما أمكن على أساس حقوق الإنسان. ويطالب أيضًا، باعتماد استراتيجية شاملة مع بكين، في إطار السياسة المشتركة بين الاتحاد الأوروبي والصين.
لكن هل ستجاري دول الاتحاد الاوروبي برلين في موقفها المستجد من الصين؟
رغم أن ألمانيا لا تزال واحدة من أكثر الأعضاء نفوذاً في الاتحاد الأوروبي، إلا أنها قد لا تكون قادرة على تحريك الكتلة (للاتحاد) بشكل كبير ضد الصين. فلنأخذ مثلا، قضية المشاركة الاوروبية في دورة الالعاب الاولمبية الشتوية التي ستقام في الصين في شباط المقبل 2022، التي كانت محل خلاف بين دول الاتحاد. فقد أعلن دبلوماسيون من الدول الغربية المتحالفة أنهم سيقاطعون الدورة، احتجاجًا على انتهاكات حقوق الإنسان في الصين، وبالفعل أعلنت ليتوانيا العضو في الاتحاد الأوروبي، انسحابها من المشاركة.
بالمقابل، أوضحت كل من فرنسا والمجر، أنهما لن تقاطعا هذه الألعاب، حسبما ذكرت وكالة "رويترز". وفي محاولة لحسم هذا التباين في المواقف الأوروبية من الدورة، من المقرر أن يناقش زعماء الاتحاد الأوروبي هذه القضية الخميس المقبل.
علاوة على ذلك، تعد الصين ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، خصوصًا بعد الاتفاق الشامل للاستثمار مع بكين (CAI)، إذ تسعى أوروبا من خلاله إلى الحصول على شروط أكثر إنصافًا عندما تستثمر الشركات الاوروبية في الصين (بما في ذلك إلغاء النقل القسري للتكنولوجيات) مع السماح بمزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر والتدفقات التجارية بين الاتحاد وبكين.
الملفت في الأمر، هو أن المفاوضات بشأن الصفقة، مع أنها كانت قد اختتمت في أواخر كانون الاول 2020، إلا أنه لم يصادق عليها مجلس الاتحاد الأوروبي حتى الآن، حيث تم تجميدها عندما فرضت الصين عقوبات على مسؤولي الاتحاد الأوروبي، ردًا على اجراء أوروبي مماثل (اي العين بالعين). أما حاليًا، وبعد انتقاد بربوك بالفعل للاتفاقية CAI، يبدو مستقبلها قاتمًا. غير أن ذلك لا ينفي أهمية الصين، لكل من اقتصادات الاتحاد الأوروبي وألمانيا، حيث لا تزال المصالح بينهم هائلة.
كيف سيتصرف المستشار الالماني مع وضع كهذا ؟
نظرًا لكون أولاف شولتس براغماتيًا معروفًا، فقد يواجه صعوبة في تحقيق التوازن بين مطالب شركاء التحالف مثل بربوك، ومطالب دول الاتحاد الأوروبي المتحالفة التي قد لا تريد نفس الأشياء التي ترغب فيها برلين. ومع ذلك، فإن ما يشاركه مع حزب الخضر هو الإيمان بالعمل المناخي، حيث يريد ألمانيا أن تنتقل إلى مستقبل خالٍ من الكربون، وهذا بدوره سيعتبر عاملا اضافيا لتأزيم العلاقة مع بكين التي تصنّف من ابرز ملوثي المناخ في العالم.
في المحصلة، فإن بربوك ليست أول سياسية قد تكون "مزعجة" لبعض الدول من حزب الخضر تتولى قيادة الدبلوماسية الألمانية، إذ سبقها في المنصب يوشكا فيشر - وزير خارجية ألمانيا إبان فترة المستشار الأسبق غيرهارد شرودر في أواخر التسعينيات - إذ كان فيشر من أبرز المشاغبين اليساريين السابقين.
فقد عُرف عن فيشر تشكيكه الصريح في أدلة الولايات المتحدة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل إبان حكم صدام حسين، بل أكثر من ذلك، أكد أن ألمانيا لن تكون مشاركة في الغزو الذي قادته إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش على العراق عام 2003.
زد على ذلك، انه في الماضي، تعرضت الحكومة الألمانية للكثير من الانتقادات بسبب صمتها وخوفها بما لا يتماشى مع ثقلها ووزنها على الساحة الدولية. لكن الآن، تؤمن الوزيرة بربوك أن لدى ألمانيا الكثير من النفوذ فيما يتعلق بالصين وكذلك داخل الاتحاد. من هنا يتوقع ساسة ألمان بعض التغييرات في النبرة الالمانية على المسرح العالمي.
أما النقطة الأهم، فهي أن تصريحات بربوك "القوية" لاقت ترحيبًا من داخل الأوساط الأوروبية، وهذا سيعزز موقفها على الساحتين الداخلية والاوروبية، حيث تنتظرها مواجهة مبكرة مع الصين التي تسيطر على البنية التحتية خاصة في بلدان الجوار الأوروبي. بالنهاية وحدها الافعال هي المرجع الصالح للحكم على جدية أقوال وزير الخارجية الالمانية الخضراء، تجاه الصين، من عدمها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024