آراء وتحليلات
قاعدة التنف.. ومعادلة الردع السوري - الإيراني
د. علي مطر
يؤشر تثبيت الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، من خلال القواعد المنتشرة في المنطقة الشّرقيّة والشّماليّة الشّرقيّة، إلى أن أهداف هذا الوجود أبعد من بدعة مكافحة الإرهاب، التي لم تقم بها هذه القوات منذ أن وطئت أقدامها الأراضي السورية، فهناك على عكس ذلك سلسلة أهداف مباشرة وغير مباشرة أو لنقل غامضة، تسعى واشنطن لتحقيقها من خلال هذا الوجود، خاصةً في منطقة التنف التي يركز عليها هذا المقال.
لا شك أن واشنطن عملت، منذ بداية الأزمة السورية، وفق استراتيجية معاقبة سوريا بسبب وقوفها إلى جانب قوى المقاومة، ودعمها للقضية الفلسطينيّة، وعدم تبعيتها للإدارة الأميركيّة، وسعت لتحويلها إلى دولة فاشلة غير قادرة على تهديد أمن "إسرائيل"، وإبعادها عن المنظومة الممانعة لسياسة واشنطن في الشّرق الأوسط. وقد ساهمت واشنطن بإنهاك الدّولة السّوريّة خلال حربها مع الجماعات الإرهابية، وجعلت أطرافا مثل تركيا تستغل هذا الأمر لتقويض السيادة السورية، واحتلال أراضٍ لها، وكذلك ساعدت "إسرائيل" لتثبيت نظرية أمنية خاصةً بها، بعد أن استفادت من إنهاك الجيش السّوريّ لتستهدف أمن سوريا وحلفائها.
أولاً: أهمية قاعدة التنف وتداعيات الوجود الأمريكي
أنشأت واشنطن قواعد عسّكريّة عدة لتدعيم أهدافها، وتحقيق عناصر استراتجيتها في سوريا، وقد توزعت هذه القواعد في المنطقة الممّتدّة شرق نهر الفرات من جنوب شرق سوريا بالقرب من معبر التّنف الحدوديّ، إلى الشّمال الشّرقيّ بالقرب من حقول رميلان النّفطيّة، وتتوزّع في الحسكة ودير الزّور وحلب والرّقة. كما أنّ توزّع القواعد الأمريكيّة جعلها أشبه بالطّوق الذّي يُحيط بمنابع النّفط والغاز السّوريّ في شرق نهر الفرات، وهو ما يُمثّل غالبية الثّروة الباطنيّة لسوريا.
أقامت واشنطن قاعدةً استراتيجيّةً لها في منطقة التنف، حيث تأتي أهمية البادية السّوريّة في أجندات واشنطن من خلال السّيطرة على معبر التّنف الحدوديّ، الذّي حوّلته إلى قاعدة عسكريّة عام 2017، وتقع في منطقة المثلّث السّوريّ العراقيّ الأردنيّ، حيث تتمثّل أهداف هذه القاعدة بشكلٍ أساسيٍّ في تعطيل الممرات التّي تستخدمها إيران، بهدف مواجهة تمدّدها، والعمل على قطعها لإضعاف موقف إيران العسكريّ والاقتصاديّ، فضلاً عن أن قاعدة التنف تعتبر في الوقت نفسه ورقة نفوذ في المفاوضات القائمة منذ فترة طويلة حول مستقبل البلاد، وفق ما يشير كل من "غرانت روملي" و"ديفيد شينكر" في مقال لهما في "معهد سياسات الشرق الأدنى".
علاوةً على ما تقدم، فإن هناك أهدافا مرتبطة بأمن المنطقة والمصالح الدوليّة، بعد أن أصبح حجم التّهديد الذّي يشكّله وجود أطرافٍ متعدّدة في البادية السّوريّة بين القوى المتصارعة يثير قلقاً إقليمياً ودولياً، بعد تحويل تلك المناطق إلى بؤر من الصراعات المستمرة، حيث أصبحت تؤخر سيطرة الحكومة السورية على كامل أراضيها، وهذا ما يثير الريبة ويبعث على المواجهة المستمرة ولو بطرق غير مباشرة.
ومنذ بداية الحرب والنزاع الكبير الذي دار في سوريا، تمثل منطقة شرق الفرات بؤرة بالغة التعقيد، حيث تتداخل فيها كل عناصر الاشتباك محلياً وإقليمياً ودولياً، خاصةً أن واشنطن -فضلاً عن إقامة قواعدها العسكرية- تدرب فصائل محلية وتدعمها، وتستهدف وتسمح باستهداف القوات السورية وحلفائها، ما يجعل مؤشرات الاشتباك قائمة بشكل دائم، وتزيد من التهديدات الأمنية في المنطقة. ولا تزال القوات الأمريكية تقوم بإرسال مزيد من الأرتال والتعزيزات انطلاقاً من قواعدها المنتشرة في العراق إلى منطقة شرق الفرات، وهذا ما يطرح الكثير من علامات الاستفهام، خاصةً أن سوريا ترفض هذا الوجود، وتزيد هي وحلفاؤها في المقابل من تعزيزاتهم.
ويحيط بالحامية منطقة فض نزاعات بمساحة 55 كيلومترًا تشكّلت في إطار تفاهم أمريكي ـ روسي عام 2016. وبحسب مقالة "روملي" و"شينكر" مكّنت هذه المنطقة القوات الأمريكية والدول الشريكة من تقويض عمليات "داعش" ومنعت دخول القوات المتحالفة مع إيران، وكان لها أثر ثانوي في استقطاب اللاجئين السوريين إلى مخيم الركبان الذي يبعد فقط بضعة أميال عن القاعدة على الجانب السوري من الحدود، والذي يحتضن أُسر فصيل المعارضة الرئيسي في "حامية التنف العسكرية"، ألا وهو "مغاوير الثورة"، وهي جماعة من ضباط عسكريين سوريين سابقين يتحدرون عمومًا من منطقة دير الزور، استنادًا إلى مشروع قبلي أعدّه "مركز الأمن الأمريكي الجديد".
ويشرح الكولونيل "دانييل ماغرودير جونيور" من القوات الجوية الأمريكية في تقرير صادر عن "مؤسسة بروكينغز" في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أن الوجود العسكري في "التنف" يدعم ثلاثة أهداف للسياسة الأمريكية في المنطقة:
1- "مواصلة الحرب ضد داعش"، وهذه الشماعة التي تستخدمها واشنطن حالياً.
2- تقويض الأنشطة المدعومة من إيران على طول "الجسر البري" من إيران إلى لبنان، حسب تعبيره.
3- التمتع بنفوذ في المفاوضات المتعلقة بمستقبل سوريا. وغالبًا ما يفر المسؤولون العسكريون الأمريكيون من الإقرار علنًا بالهدفين الثاني والثالث نظرًا إلى المخاوف حيال التبرير القانوني للوجود الأمريكي في سوريا.
وفضلًا عن تقويض خط الاتصالات الأرضي الذي يجمع إيران وسوريا والمقاومة، أثبت الوجود الأمريكي في "التنف أنه مفيد لما يسميه شينكر بـ"حملة إسرائيل بين الحروب"، التي تردد أنها شملت عشرات المهام الجوية ضد أهداف في سوريا. وقد استهدفت بعض هذه العمليات قواعد سورية وإيرانية.
ثانياً: الرد ومعادلة الردع
أتى الرد على القوات الأمريكية في هذه القاعدة من خلال القصف بطائرات مسيرة، في شهر تشرين الأول المنصرم، والذي يعتبر أداة ضغط مهمة جداً في مسار مواجهة الاحتلال الأميركي للأراضي السورية، وبالتالي الضغط على هذه القوات لمغادرة أراضي الدولة.
وعليه من المتوقع أن تتزايد العمليات العسكرية ضد القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، لزيادة الضغط على الإدارة الأمريكية لإحداث تحولات في سياساتها الخارجية تجاه المنطقة قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس المقررة، وبالتالي السعي إلى تخليص هذه المنطقة من الوجود الأمريكي بما يضمن حماية طريق بغداد – دمشق بما له من أهمية بالنسبة للحلفاء، خاصةً أن الحالة الأميركية في الشرق الأوسط في تراجع، وتسمح بالضغط على واشنطن لتقليص وجودها في المنطقة والانسحاب من سوريا.
ما تقدم يزيد أيضاً من فرضيات الضغط السوري - الإيراني على القوات الأميركية المحتلة، من خلال اعتماد استراتيجية الاستهداف المباشر للقوات الأمريكية، وبالتالي ايضاً هذا ما يوسع من فرص الضغط لايقاف الكيان الإسرائيلي عن استهداف سوريا أو التقليص منه لمنع فرص نشوب معركة بين الطرفين، وعليه أصبحت هناك قاعدة اشتباكات جديدة تقوم على توازن ردع جديد ترسمها القوات السورية والإيرانية في المنطقة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024