آراء وتحليلات
بكين تُرعب واشنطن من بوابة الاطلسي
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
لم تعد أي منطقة في العالم بمنأى عن الطموح الصيني. فالصين لا تترك فرصة إلا وتسعى من خلالها للتمدد في كل اتجاه. هذه المرة، كانت افريقيا وتحديدًا غينيا الاستوائية الحدث الذي فجرّ المفاجأة الكبرى. فنفوذ بكين بات قاب قوسين أو أدنى من عقر دار واشنطن ودرعها الطبيعي ونعني به "المحيط الاطلسي".
من المعلوم أن الهجمة الصينية على افريقيا تعود لعقود خلت، لكن ما لم يكن بحسبان واشنطن، هو اختيار بكين لهذه الدولة، وما قد يخلفه ذلك من مخاطر استراتيجية على الولايات المتحدة.
تبدأ القصة من مسعى الصين الى استمالة غينيا الاستوائية للسماح لها ببناء قاعدة عسكرية قبالة سواحلها، مع إمكانية الوصول المباشر إلى المحيط الأطلسي. الخطوة، في حال أصبحت أمرًا واقعًا، من شأنها أن تمنح بكين موطئ قدم في تلك المنطقة الحساسة لواشنطن، وتقلقها بشدة، وبالتالي ترفع منسوب المنافسة والصراع والتوترات القائمة أصلًا بينهما، لا سيما في القارة الافريقية.
وحتى قبيل هذه الخطوة الصينية (الوقحة برأي أميركا)، فإن تحركات بكين في افريقيا بشكل عام، كانت تدق ناقوس الخطر في الولايات المتحدة، فكيف حاليًا مع هذه المشكلة التي ضاعفت منسوب القلق لديها؟ يعتبر المسؤولون الأميركيون أن انشاء قاعدة عسكرية صينية في المياه الأطلسية، يشكل سيناريو مرعبًا للولايات المتحدة، وسط توترات بين البلدين بشأن تايوان، ومنشأ كورونا.
فلنأخذ مثلًا قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، الجنرال ستيفن تاونسند المطلع على طبيعة واشكالية وخطورة الخطوة الصينية بحكم منصبه، فهو قال إن "الصين تتطلع إلى دول على طول الساحل الغربي لأفريقيا بالكامل تقريبًا، في أقصى الشمال مثل موريتانيا، وجنوبًا مثل ناميبيا، في محاولة للعثور على قاعدة في المحيط الأطلسي. والآن، بدأت بكين في التركيز على غينيا الاستوائية، الدولة الواقعة في وسط إفريقيا، باعتبارها الخيار الأفضل".
وحذر الجنرال تاونسند مجلس الشيوخ "من خطر امتلاك الصين لمنشأة بحرية على ساحل الاطلسي". وقال لصحيفة وول ستريت جورنال "أتحدث عن ميناء يمكنهم من خلاله إعادة التسلح بالذخائر وإصلاح السفن البحرية".
ولكن لماذا اختارت الصين هذه الدولة الافريقية بالتحديد؟
عام 2009، قامت الصين بتحديث ميناء تجاري في غينيا الاستوائية في مدينة باتا، أكبر مدينة في البر الرئيسي. بعدها أصبحت "باتا" تمتلك بالفعل ميناءً تجاريًا صينيًا في المياه العميقة، مما يتيح لها الوصول إلى خليج غينيا.
استنادا لمسؤولي وكالة المخابرات الأمريكية، جاء وضع الصين عينها على مدينة باتا الساحلية في غينيا الاستوائية، ليس على خلفية موقعها الاستراتيجي، وكونها تتمتع بإمكانية الوصول إلى المحيط فحسب، بل (والاهم هنا)، لأن لديها أيضًا طرقًا سريعة تربطها بالغابون والداخل الأفريقي.
وبحسب "سي اي ايه"، يأمل الرئيس الصيني شي جين بينغ في إقناع رئيس الدولة الواقعة في غرب إفريقيا (غينيا)، تيودورو أوبيانج نغويما مباسوجو، بالسماح بتوسيع ميناء باتا، وتحويله إلى قاعدة عسكرية.
وعليه، من الناحية العسكرية، إذا نجحت بكين في مسعاها، فسيمكّنها ذلك من إصلاح وإعادة تسليح سفنها الحربية وغيرها من المعدات البحرية في نفس المياه التي تصل أيضًا الى الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وهنا يكمن جوهر القضية.
ما هي الخطورة التي تشكلها القاعدة الصينية على واشنطن؟
على عكس دول مثل كينيا وتنزانيا وأنغولا، فإن منشأة عسكرية صينية على المحيط الأطلسي ستكون لها آثار عملية ورمزية كبيرة لأنها تتحدى بشكل مباشر الهيمنة الأمريكية على المنطقة. إضافة إلى ذلك، من المتوقع أن توفر قاعدة غينيا خيارات لنشر قوات لحماية الاستثمارات الصينية في الجزء الغربي من إفريقيا.
أكثر ما يقلق واشنطن، أن القاعدة الدائمة على ساحل المحيط الأطلسي، ستسمح للسفن الحربية الصينية بإعادة تسليحها عبر المحيط، مما يتيح وصولاً جغرافيًا أسهل إلى المدن الأمريكية الكبرى مثل واشنطن العاصمة ونيويورك وبوسطن وغيرها.
إضافة الى ذلك، تسلط خطط الصين لإنشاء منشأة جديدة على المحيط الأطلسي الضوء على التوسع السريع لقواتها البحرية. أشار تقرير البنتاغون الأخير إلى أن بحرية جيش التحرير الشعبي (PLAN) أصبحت الآن أكبر بحرية في العالم "مع قوة قتالية إجمالية قوامها حوالي 355 سفينة وغواصة، بما في ذلك ما يقرب من 145 من القطع البحرية الرئيسية".
المصيبة الكبرى بالنسبة لأمريكا، أن الصين لديها أجندة عسكرية طموحة جدًا في افريقيا، حيث حذر أحدث تقرير للبنتاغون حول التحديث العسكري الصيني، من أن "الصين تدرس إنشاء منشآت عسكرية في كينيا وتنزانيا وأنغولا".
وتعليقًا على ذلك، قال بول نانتوليا الباحث المشارك في "مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية الممول" من البنتاغون: "الصين لا تبني فقط قاعدة عسكرية مثل الولايات المتحدة. النموذج الصيني مختلف جدا جدا. وهو يجمع بين عناصر مدنية وأمنية على حد سواء".
وهنا من البديهي طرح السؤال التالي: ما هي التدابير والاجراءات التي قامت بها أميركا لمواجهة هذا التهديد الداهم؟
لا شك أن نجاح الصين في مشروعها هذا، يقضّ مضاجع واشنطن، ولقطع الطريق على بكين، تحركت أميركا (استباقيًا) في أكثر من اتجاه للحؤول دون وصول الصين الى مبتغاها، وبالتالي منعها من أن تكون قادرة على إبراز قوتها العسكرية خارج تلك المنطقة.
وانطلاقًا من هذه النقطة، زار النائب الرئيسي لمستشار الأمن القومي الأمريكي جون فينر غينيا الاستوائية في تشرين الاول الماضي، في مهمة لإقناع الرئيس تيودورو أوبيانج نغويما مباسوغو برفض مبادرات الصين لمثل هذا المشروع، حيث نبهت إدارة الرئيس جو بايدن حكومة مباسوغو من أن أي نشاط صيني من شأنه أن يثير مخاوف تتعلق بالأمن القومي.
الملفت أنه في الوقت الذي فشلت فيه إدارة دونالد ترامب السابقة، في ثني غينيا عن السماح للصين ببناء المنشأة العسكرية، يبدو أن الجهود الدبلوماسية المماثلة لبايدن لوقف التوسع العسكري الصيني قد حققت بعض الاختراقات النسبية، فيما الوسيلة كانت استخدام سياسة العصا والجزرة في آن.
فمن جهة عملت الولايات المتحدة على تعزيز العلاقات مع غينيا الاستوائية في الأشهر الأخيرة، حيث عرضت الولايات المتحدة المساعدة للبلاد، بعد انفجار مخزن ذخيرة في إحدى القواعد العسكرية للبلاد في اذار الماضي، أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 100 شخص. كما أجرت الولايات المتحدة أيضًا تدريبات عسكرية مشتركة مع قوات غينيا الاستوائية في الشهر ذاته.
وفي آب الفائت، رست سفينة حربية أمريكية قبالة ميناء باتا.
إضافة الى ذلك تملك واشنطن أوراق قوة لا يستهان بها في غينيا التي تعتمد ايضًا بشكل كبير على شركات النفط الأمريكية. فهي كانت قد ساعدت شركات النفط هذه في استخراج النفط البحري، كذلك ساهمت برفع غينيا الاستوائية لتصبح أغنى دولة في منطقة البر الرئيسي جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.
أكثر من ذلك، رفعت وزارة الخارجية الأمريكية مؤخرًا ترتيب غينيا الاستوائية في تقييمها السنوي لكيفية مكافحة البلدان للاتجار بالبشر، بحيث يمكن أن يؤهل التصنيف المحسن هذه الدولة الأفريقية، لتلقي المساعدة الأمنية البحرية الأمريكية، والتي يمكن أن تساعد في تعزيز العلاقات بين واشنطن وغينيا الاستوائية.
بالمقابل (وهنا تبزر سياسة العصا) لا تتوقع الولايات المتحدة أن تقطع غينيا الاستوائية جميع علاقاتها الواسعة مع الصين، إلا أنها تأمل أن تتجنب في علاقاتها تلك كل ما من شأنه أن يشكل تهديدًا للولايات المتحدة، خصوصًا وأن الأخيرة لا تزل تحتفظ بسجل حقوقي دسم لغينيا - حافل بالجرائم - حيث كانت واشنطن اتهمت حكومة أوبيانغ سابقًا، بارتكاب عمليات قتل خارج نطاق القضاء، وقيامها بعمليات اخفاء قسري، إضافة الى تسجيل حالات تعذيب وانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان. وطبعًا فإن اعادة فتح ملف غينيا سيرتبط بمدى استجابة تلك الدولة الافريقية لضغوط واشنطن.
ليس هذا فحسب، فوزارة العدل الأمريكية كانت قد رفعت أيضًا سلسلة من القضايا المدنية ضد أوبيانج مانجو نجل الرئيس (ويشغل ايضا منصب نائب الرئيس)، زاعمة أنه سرق أموالًا من خزانة البلاد لتحقيق مكاسب شخصية. وفي تسوية جرت في العام 2014، سلم أوبيانغ مانغو بعض أصوله المالية إلى وزارة العدل الاميركية. باختصار رقبة غينيا بيد الجلاد الاميركي.
في المحصلة يبدو أن افريقيا ستنضم في المستقبل القريب، الى مناطق التنافس الصيني ــ الاميركي، وستشهد ربما مزيدًا من الأزمات أو الصراعات المحلية، ومهما كانت نتائجها فإن الخسارة ستقع على رؤوس شعوب هذه القارة المستضعفة التي ما إن تتحرر من استعمار أو احتلال، حتى تقع في براثن آخر.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024