معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

صندوق النقد ومسلسل الفقر والديون
27/11/2021

صندوق النقد ومسلسل الفقر والديون

أحمد فؤاد

"لم يكن هنا بكاءٌ حسبما يُسمع، ولكن التنهيدات جعلت الهواء الأبديّ يرتعد، هنا حيث ستسمع الصرخات اليائسة، وترى النفوس القديمة المُعذبة، تصرخ كلٌّ منها طالبةً الموتة الثانية، النهائية" - دانتي ألييجري في رائعته العابرة للقرون "الكوميديا الإلهية".

تضاريس الفقر الوعرة في العالم العربي زادتها أصابع الأنظمة الفاشلة قسوة والتهابًا، ومع الهروب إلى القروض الأجنبية ورعبها الدائم، وهي مفتاح كل ما جرى وسيجري على هذه الأرض البائسة من معاناة قاتلة، وبقرارات غاشمة من الأقليات الحاكمة تخرج بلا ضمير، وتطبق بالقدر الأقصى من الغباء، لتنتج سياسات فتكت في نهاية الطريق بالأغلبية المغلوبة، المهزومة.

لم يعد الموت هنا السبب الوحيد للمعاناة، البعض في العالم العربي يموت يوميًا بالقهر في سبيل الحصول على لقمة العيش، ويموت ثانية بالعجز عن توفيرها، ويموت أيضًا حين ينتهي نهار طويل من السعي والكد، فإذا هو لا يتحصل على أقل القليل مما يكفيه تجنب ذل الحاجة وإراقة ماء وجهه في النهار التالي، كل ذلك بحثًا فقط عما يسد جوعه وأسرته، والأخطر في ظل أنظمة حكم لا ترى في الفقر عدوًا للدولة من الأصل.

وتحت أنظمة الحكم تلك، تحول الفقر والمرض والجهل إلى قدر للطبقات المسحوقة، مع خروجها تمامًا من مظلة رعاية الدولة، في هتك فاجر للعقد الاجتماعي المفترض بين دولة ما ومواطنيها، مع تخلي الدول عن التزاماتها، واستمرارها في الوقت ذاته بإلزام الطرف الآخر بالتزاماته كلها، الأمر الذي خلق تناقضا مرعبًا على صعيد الحياة اليومية.

جاءت جائحة "كورونا" لتسرع من الإفقار المتعمد للمزيد من الطبقات في العالم العربي. لم يخلق الفيروس الأزمة لكنها فجرها، لتزداد وتيرة سقوط المزيد من الناس تحت خط الفقر، في كل دولة عربية، في لبنان ومصر والعراق، وحتى في الدول النفطية الغنية؛ السعودية هي الأخرى تعاني من زيادة نسب الفقر مع تراجع عائدات النفط خلال العامين الماضيين، بفعل تراجع الطلب الشديد.

وأخطر صور الفقر المرعبة في عالمنا العربي هو ما يعرفه البنك الدولي بـ"الفقر المدقع"، وهو العجز عن توفير وجبة غذائية كاملة على الأقل في اليوم الواحد، أو بكلمات أبسط: الفشل في توفير الحد الأدنى الضامن للبقاء على قيد الحياة فقط، وهذه النسبة كانت 2.6% في العام 2015، ارتفعت مع الجائحة حتى وصلت إلى 6.5% دخلوا تحت أسر العجز الكامل عن الحياة.

الغريب أنه في ظل كل تلك الأرقام والمعطيات، فإن الحكومات العربية -كلها- لا تزال تفضل الذهاب إلى صندوق النقد الدولي لحل الأزمات التي صنعتها، وللحصول على صكوك دولية تتيح لها الاستمرار في الاقتراض المرعب، لتلبية احتياجات الطبقات الحاكمة في تكديس الثروات، ومهما بلغ مدى الكارثة الإنسانية لفاجعة كورونا، ومهما وصل الحال بالأغلبية الساحقة من مواطنيها.

والأغرب أن الدول التي استعانت بصندوق النقد الدولي، لم يزدها اللجوء إليه إلا خبالًا، وسقطت في نير هاوية مرعبة من الديون الأجنبية المركبة، حتى بات ما يأتي منها يسد القروض القديمة، في مسلسل مقزز وبائس بشدة، وعجزت عن ضمان توفير أدنى رعاية لمواطنيها، لا تعليم ولا صحة، وبالطبع وقبل كل شيء، ليس هناك آذان تسمع أو عيون ترى الفاجعة.

في مصر على سبيل المثال، والتي تطبق ما يدعي النظام أنه "إصلاح اقتصادي"، تحت وصاية صندوق النقد الدولي، وتصدر عبر إعلامها ما تتصور أنه "إنجازات"، يمكننا معاينة رقم واحد فقط مما آل إليه الحال للحكم الوافي على المسيرة المظلمة، فقد ارتفعت الديون الخارجية المصرية من 44 مليار دولار فقط في 2014، قبل شهور من تطبيق الإصلاح المزعوم، لتلامس 140 مليار دولار حاليًا، بزيادة تفوق 3 أضعاف، وتضاعف الدين الداخلي إلى 4.5 تريليون جنيه، مرتفعا هو الآخر بثلاثة أمثال عن العام 2014.

في المقابل، فإن الأمطار الموسمية المعتادة على ثاني أكبر المحافظات المصرية الإسكندرية، قد شهدت انهيارًا كاملًا للبنية التحتية في المدينة العريقة، ولم تفلح كل محاولات شبكات الصرف والتدخل بالمعدات في منع تحول الشوارع الرئيسية إلى بحيرات ضخمة، ليحطم الواقع أوهام ما قيل عن مصروفات هائلة على الخدمات العامة، التي غرقت في ساعة واحدة.

في كتابه الملهم، "الاغتيال الاقتصادي للأمم - اعترافات قرصان اقتصادي"، تمنح القراءة رؤية جديدة للجانب الآخر من العالم، الجانب الذي يصنع الأزمة ويصدرها، ويكشف الخبير الاقتصادي السابق جون بيركنز، طبيعة العالم المالي الخفي، وكيف تؤسس القروض الأجنبية الضخمة التي تحصل عليها الدول النامية لحكم "الكوربوقراطية"، أي منظومة الشركات الأميركية الكبرى، المسيطرة على الكوكب كله، عبر نظام مالي أبشع مرات ومرات من الاحتلال الفعلي.

يقول بيركنز إن القروض التي تحصل عليها الدول النامية لا تغادر أصلًا البنوك الأميركية، سواء كان مصدر القروض صندوق النقد الدولي أو الحكومة الأميركية، لكنها تتحول إلى حسابات الشركات الكبرى، فتخرج من مصارف واشنطن لتذهب إلى مصارف نيويورك وهيوستن وسان فرانسيسكو، مقابل مشروعات بنية تحتية وبناء مدن ومطارات وموانئ ومحطات كهرباء.

ويضيف: "ورغم أن القرض أصلًا لم يغادر الأراضي الأميركية، إلا أن الدولة المدينة عليها سداد أصل القرض وفوائده"، وهنا يأتي دور بيركنز "القرصان الاقتصادي"، إذ يتحدد مدى نجاح الخبير في المدة التي ستستغرقها الدولة المستهدفة في التعثر بسداد القروض الهائلة التي حصلت عليها، أو بشكل أدق ترتبت على استعانتها بأسواق المال العالمية.

ويأتي دور الأرقام الجافة لمؤسسات السيطرة المالية العالمية، صندوق النقد والبنك الدوليين، وعبر خبرائه أيضًا، بوضع وإصدار أرقام جافة للنمو الاقتصادي، وتبيان إيجابيتها، وتوضيح تأثير إنفاق الأموال على المشروعات المنفذة في رفع مستويات النمو، رغم أن الحقيقة تكشف أن المستفيد من هذه المشروعات أقلية مسيطرة أو حاكمة، مقابل أغلبية ساحقة يزداد فقرها، وتتكون في هذه المرحلة العائلات التي تملك النفوذ السياسي وتتراكم ثرواتها عبر ارتباطها الكامل بالغرب، وبقدر ما تساهم هذه الطبقة المخلقة في تكبيل إرادة أوطانها ورهنها للأجنبي، بمقدار ما تصبح هي النموذج-المثال للطموح في بلدانها بفعل التلميع الإعلامي المستمر لها.

هكذا تسيطر الولايات المتحدة على بلادنا، وهكذا تتدخل بشكل يومي في أدق تفاصيل حياتنا داخل مدننا وشوارعنا، وهكذا تصنع الفقر وتصدره لنا وتضمن استمرارنا في معاناة يومية، تضع الغشاوة ثقيلة على العيون لكي لا نرى الحقيقة الساطعة، وهي أن كل دولة قررت الذهاب في الطريق الأميركي لم تجن إلا الفقر والذلة والبؤس، ولم تجد في الحلقة الأخيرة من مسلسل الاستدانة إلا الحذاء الأميركي موضوعًا فوق رأسها.

صندوق النقد الدولي

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل