آراء وتحليلات
جريمة المقدادية.. التحليل الأمني والبعد السياسي
بغداد - عادل الجبوري
لا يمكن النظر الى المجزرة المروعة التي ارتكبتها عصابات "داعش" الاجرامية الأسبوع الماضي في قضاء المقدادية التابع لمحافظة ديالى، وكأنها واحدة من الأحداث اليومية العابرة في المشهد العراقي العام.
لا شك أن مجزرة قرية الرشاد في المقدادية، والتي راح ضحيتها أكثر من خمسة عشر مواطنًا مدنيًا، فضلًا عن إصابة أعداد أخرى، تمثل خرقًا أمنيًا خطيرًا وكبيرًا، يحتاج الى التوقف عنده طويلًا، والإحاطة بكل أبعاده وتداعياته وتأثيراته، ارتباطًا بطبيعة الظروف والأوضاع المحيطة به.
النقطة الجوهرية والمهمة هنا، هي أن ذلك العمل الإجرامي، جاء بعد وقت قصير من ضربات قاصمة تعرض لها تنظيم "داعش" الارهابي في العراق، من خلال القاء القبض على اثنين من أهم وأبرز قياداته، وهما نائب زعيم التنظيم والمسؤول المالي له، والعقل المدبر والمسؤول الرئيسي عن عدد كبير من التفجيرات في بغداد ومدن أخرى.
ففي الحادي عشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر، أعلن رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي، إلقاء القبض على سامي جاسم الجبوري المكنى (ابو اسيا)، المسؤول المالي ونائب زعيم تنظيم "داعش" المقتول ابو بكر البغدادي، والذراع الأيمن لزعيم التنظيم الحالي ابو ابراهيم القريشي.
وبعد أسبوع واحد، تم الاعلان عن اعتقال القيادي الآخر في تنظيم "داعش" غزوان الزوبعي، الذي يعد العقل المدبر للكثير من العمليات الارهابية التي وقعت في بغداد ومدن عراقية أخرى خلال الأعوام المنصرمة، وآخرها وأكثرها دموية، تفجير مجمعات تجارية مكتظة بالمتبضعين والمارة بمنطقة الكرادة الشرقية وسط بغداد، في مطلع شهر تموز-يوليو من عام 2016، راح ضحيته أكثر من 300 شخص.
وطبيعي أن تلك العمليات، كانت نوعية، باعتبار أنها استهدفت قيادات داعشية كبيرة ومهمة في هيكلية التنظيم، مثلت طيلة بضعة أعوام أبرز محاور ومحركات عمل وتحرك وفاعلية "داعش"، ليس في العراق فحسب، بل في دول ومواقع أخرى، وبالتالي أربكت وضع التنظيم الى حد كبير، لذلك فإنه كان المتوقع أن يكون له ردة فعل ورد على ما تعرض له.
البعض افترض أن رد "داعش" جاء من خلال العمليات الارهابية التي استهدفت مساجد وحسينيات تابعة للمكون الشيعي في مدينتي قندوز وقندهار الافغانيتين مؤخرًا، انطلاقًا من حقيقة أن امتداد التنظيم ونشاطاته وتحركاته لا تقتصر على بلد دون آخر، وكذلك انطلاقًا من كون عمليات القبض على قيادييه البارزين - الجبوري والزوبعي - تمت خارج حدود العراق، وعبر تعاون استخباراتي كبير ومحكم بين عدة أجهزة مخابراتية اقليمية.
ولكن البعض الآخر، أكد أنه لا بد أن يكون لـ"داعش" رد في العراق حصرًا، وكان التوقع أن يأتي الرد بصورة تفجير انتحاري أو سيارة مفخخة في أحد الأماكن المزدحمة، كما حصل قبل عدة شهور في ساحة الطيران وسط بغداد أو في مدينة الصدر، وقد تحسبت الأجهزة الأمنية لهذا الأمر، واتخذت العديد من الإجراءات الإحترازية.
بيد أن ما لم يكن متوقعًا هو أن يكون الرد من خلال هجوم ارهابي على المدنيين، في منطقة ذات هوية شيعية، ومصدره من منطقة ذات هوية سنية (قرية نهر الامام)، مما يوحي أن الهدف الأبعد من قتل مجموعة من الناس الأبرياء، يتمثل بإثارة فتنة بين مكونين، وفي مدينة شهدت الكثير من مظاهر القتل والهجرة والنزوح قبل بضعة أعوام، حينما سيطر تنظيم "القاعدة" الارهابي ومجاميع مسلحة أخرى تدور في فلكه على مناطق ومدن مختلفة، في إطار مخطط خارجي كبير وخطير لخلق حرب أهلية واقتتال داخلي بين مكونات المجتمع العراقي.
وما يعزز ذلك، التحذيرات التي أطلقها خبراء أمنيون ومراقبون من أن "داعش" يعمل على جر البلاد للفتنة الطائفية مجددًا، من خلال ارتكاب جرائمه في مناطق مختلطة مذهبيًا، كما هي الحال في محافظة ديالى، ومركزها مدينة بعقوبة. في ذات الوقت لا تستبعد أوساط أمنية في تقارير لها أن "يحاول تنظيم داعش عبر رفع وتيرة هجماته الإرهابية، الثأر من توالي الضربات الموجعة له في العراق خاصة، ولا سيما بعد سقوط نائب البغدادي في قبضة القوات العراقية، اثر عملية استخباراتية نوعية نفذت خارج البلاد وانتهت بالقاء القبض عليه".
وتتوقع أوساط أمنية في تقارير لها، وقوع هجمات إرهابية مشابهة خلال الفترة القريبة القادمة، لبث الفوضى وخلط الأوراق وتسعير النعرات المذهبية.
ويتفق الكثيرون على أن المدن والمناطق المختلطة مذهبيًا وطائفيًا وقوميًا، والتي شهدت في أعوام سابقة أوضاعًا أمنية غير مستقرة، ونفوذًا للجماعات الإرهابية المسلحة فيها، ما زالت تفتقد إلى الأمن والاستقرار الحقيقي، لا سيما مع وجود الخلايا الإرهابية النائمة.
ويشير خبراء أمنيون الى "ان المنطقة التي وقع فيها الحادث من المناطق التي ينشط فيها تنظيم "داعش"، وهي منطقة رخوة تمتاز بتضاريس صعبة تجعل من عناصر التنظيم يتحركون بسهولة من دون أن يتم اكتشافهم". مضيفين "ان عصابات داعش تستغل التنوع الديموغرافي في هذه المناطق لشن عملياتها الاجرامية".
من جانب آخر، بدا واضحًا طيلة الأعوام الثمانية عشر المنصرمة، أن الجماعات والتنظيمات الارهابية، غالبًا ما تستغل الظروف والاوضاع السياسية القلقة، وأوقات الشد والاحتقان السياسي، لتنفيذ عمليات اجرامية، في اطار السعي الى تأزيم الأمور، والملاحظ هنا أن الفاصل الزمني بين اجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة وما رافقه من تداعيات وجدل وسجال، وبين وقوع عملية المقدادية لم يتعد الاسبوعين فقط. وهذا ما يؤكده مختصون بالقضايا الامنية، اذ يقولون "ان داعش يستغل الظروف السياسية التي يشهدها العراق، خاصة بعد حالة الارتخاء الأمني والاستقرار النسبي الذي سبق الانتخابات ولغاية حصول هجوم الرشاد".
ما هو أخطر من العمل الارهابي ذاته، هو ما يمكن ان تولده وتترتب عليه من ردود أفعال متسرعة وانفعالية، قد توسع مساحات الصدام المناطقي المجتمعي، ولعل رد فعل بعض أبناء قرية الرشاد على قرية نهر الامام التي صدر منها الهجوم الارهابي، يحمل بين طياته نذر الخطر الكبير، ما لم يتم اتخاذ خطوات جادة وسريعة وحازمة لاحتواء الأمور بحكمة وعقلانية من قبل الجهات الحكومية والأوساط المجتمعية، كوجهاء وشيوخ العشائر والنخب والشخصيات المؤثرة من مختلف المكونات.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024