آراء وتحليلات
إن النصر مع الصبر: التعبئة وخطوط المعركة المقبلة
أحمد فؤاد
لكل عصر مفتاح وسياسة، لمن أراد ووعى دوره، وهضم التفاعلات الحادة التي تمور بها المنطقة والعالم اليوم، العالم الفوار بالتغيرات الحادة وإعادة التموضع والرقعة المشتعلة في قلبه، الشرق الأوسط، وبقدر ما كان الصمود هو أهم العوامل التي أهلت محور المقاومة لحصد تضحيات عقود طويلة، بقدر ما سيكون الصبر هو فرس الرهان في العصر الجديد.
الحرب التي يخوضها حزب الله اليوم، ومن ورائه محور المقاومة، بما تحمله من معنى الوجود ذاته، للأمة العربية التي يتهددها تمدد السرطان الصهيوني على الرقعة الجغرافية للشرق الأوسط، لا تفرض ردًا وافيًا مثل "التعبئة" بمدلولها وثمنها الكبير المنتظر، تعبئة كل الموارد ومصادر القوة لتحقيق أفضل عبور إلى المستقبل.
بكلمات نافذة إلى القلب والوجدان، تحدث سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، إلى أمته ومواطنيه، استجابة للتحديات الطارئة التي تهز أركان استقرار داخلي هش، عقب قراره التاريخي بكسر الحصار الأميركي على لبنان، والذي أزاح في طريقه الحصار على سوريا أيضًا، وجعل من الممكن لمحور المقاومة أن يخطو في ضوء مسار جديد.
تحدث السيد، وهو أولى من يحدد ويضع الأولويات، وأكثر من يدرك طبيعة الظرف المستجد، عقب إنجاز كسر القرار الأميركي، في بلاد تعود حكامها وطبقتها السياسية أن يكونوا رهنًا للأميركي، وتبدو هذه الطبقة الآن كالطفل التائه، فاقدة الصواب والبوصلة والمرشد، في زحام من الحوادث تسير على غير هدى، فلا تترك لهم الظروف إلا اللجوء للفوضى أو صناعة الضجة، في سعي محموم لكسب بعض الأرضية التي خسرها سيدهم، وجلبًا لأضوائه وربما طمعًا في اهتمامه.
حذر السيد من انفراط الدولة، بتسييس قضائها وإفساده، وإظهاره على الملأ كقفاز أميركي - طائفي، على مقاس المهمة المطلوبة منه، بما يفقد الدولة أهم عناصر هيبتها، ويهز أساسات وجودها في عيون مواطنيها، فالدولة التي تسقط في هذا الفخ ستفقد تلقائيًا ضرورات بقائها ذاتها، وتستنزف مصداقيتها بأسرع الطرق الممكنة.
وكانت الكلمة اللافتة في حديث السيد عن الخصخصة، التي تعد معولًا آخر لهدم الدولة وبيع دورها المفترض والطبيعي لأول مشتر آت، ومع الدور ـ وربما فوقه - ستبيع مواطنيها على مذبح الأرباح العالمي، الذي يجيد نهب الضحايا حتى الجلد والعظام، ونزح فائض القيمة للمجتمعات إلى الخارج، بما يعيق عملية تطورها الاقتصادي والاجتماعي، وضمان استمرارها في دور التابع للمراكز العالمية في الغرب.
المفروغ منه أن الخصخصة هدف أميركي، يجري التمهيد له على يد حلفاء الداخل وأعوانه، لغل يد الدولة أكثر عن تسيير حياة مواطنيها، وهو الهدف الأسمى حاليًا لهذه التحركات، رغم جلب حزب الله للمازوت من الجمهورية الإسلامية عبر سوريا، والتي أنقذت البلد والمواطن من أزمة الحصار المفروضة والمستحكمة، والتي كان يراد لها أن تستمر لوقت أطول.
والآن حان وقت دخول صندوق النقد الدولي إلى المسرح اللبناني، وهو دخول قادم بالتأكيد في ظل حالة المالية العامة المتعثرة تحت وطأة قيادات خابت وخانت، وسيكون البند المطروح على مائدة الحكومة اللبنانية الحالية هو الخصخصة، باعتباره الشرط الأول لأية قروض قد يرغب لبنان في الحصول عليها، وسبق أن فجر حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، قنبلة الرغبة في خصخصة البنوك.
بالمعنى الاقتصادي فإن الخصخصة هي نقل لملكية المنشآت والوحدات العامة من يد الدولة إلى القطاع الخاص، والذي تراه الرأسمالية هو الأقدر والأكفأ على الإدارة، لكن بمنطق الحوادث والتجارب السابقة، فإن ما يحدث هو إفشال متعمد وممنهج للقطاعات المستهدفة بالخصخصة مبدئيًا، لفرض التقبل العام لمسألة طرحها للبيع، ومن ثم، القبول بأول راغب في الشراء، طالما كان سيوفر السلعة / الخدمة للناس بسلاسة.
لكن الرأسمالية، وفي طور تطورها النيوليبرالي الشرس، تهتك في مسيرها الثقيل كل الحدود والخطوط الحمر، فقد يكون مقبولًا خصخصة القطاعات التي تستنزف الجهد وتعيق تقديم الخدمات للمواطنين، واستبدالها بشركات وطنية، مع فرض تعريفة وشروط واضحة للتعامل مع المجتمع، لكن التخلي عن الأساسيات يبقى طعنة قاتلة لدور الدولة من الأصل، فإذا كانت الحكومة الخاضعة للإملاء الأميركي لا تستطيع تقديم أو ضمان توفير واستمرار الخدمات الحيوية والضرورية جدًا لكل مواطنيها، فما هو مبرر حكمها أو بقائها من الأساس؟
الخصخصة المفروضة ببساطة، في حال الدول التي ستخضعها أزمة الظرف إلى وصاية صندوق النقد الدولي، هي انسحاب كامل من معركة وطنية، يومية ومستمرة وحتمية، لتوفير الضروريات لشعبها وبلدها، مقابل عدة مليارات من الدولارات، ستحصل عليها الحكومات لتبددها على مشروعات تافهة يرضى عنها المانح وينصح بها، وربما يفرضها أيضًا، وفي النهاية سيدفع المواطن من قوته أرباح الأجنبي، وستتعهد الدولة بتحويل الأرباح إلى العملة الصعبة، ليستطيع المستثمرون نقل أرباحهم إلى بلدانهم.
أي أن المواطن ببساطة سيدفع ما كان يدفعه بالليرة، لكن بالدولار، وبالأسعار الجديدة، وكأنه يحصل على خدمة مستوردة لا تُنتج في بلده، وسيزيد الخرق على الراتق سنويًا بين ما ننتجه وما نستورده، وبين الموارد من العملة الصعبة وبين المصروفات المطلوبة، وهو ما يعني الدخول في دوامة الديون المزمنة، بالإضافة إلى الانخفاض التدريجي والمستمر في العملة المحلية.
الحل الأميركي الذي حذر منه السيد في حقيقته لهاث وراء السراب، وهو مضيعة للوقت والجهد، خاصة حين يكون السراب محض كلمات رنانة، تكون الخسارة أفدح، لكن الأولى من الخيال هو البحث عن حلول من رحم الواقع، وانتزاع الحقوق من ذات الظرف التاريخي الصعب، ووضع الخطط موضع التنفيذ، بدلًا من أن تظل حبيسة درج الأمنيات المؤجلة.
أخيرًا.. زينت جملة "إن النصر مع الصبر" شاشة المنار، التي أطل منها سماحة الأمين العام، السيد حسن نصر الله، لتضع أمام من يريد أن يرى، بقلبه، وحدة العقيدة والإيمان لمناسبة قرب مولد نبي الرحمة، مرورًا بوحدة الظرف التاريخي الدقيق الذي تمر به الأمة العربية والإسلامية، وإشارة بالغة الأهمية لعدونا الأول والأصل، وصولًا إلى وحدة الهدف والمستقبل والمصير.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024