آراء وتحليلات
انتصار فلسطين الآتي
أحمد فؤاد
قبل 40 يومًا بالضبط، كانت معادلات الشرق الأوسط القديم قائمة، تفرض شروطها على الجميع، تضع للصراع حدودًا لا يتجاوزها، وتمنح الأرضية الصلبة التي يقف عليها الكيان الصهيوني الإمكانية للتمدد والتقدم، خصمًا من دول عربية أخرى، كانت كبيرة يومًا ما، ويدفع إليه بصك امتلاك المستقبل العربي، يشكله كيف شاء.
لكن الخرق اللبناني الأكبر للعبة التي وضعتها وشغلتها أميركا، لا يزال يضرب المزيد من الأحجار والقواعد الموضوعة لصراعنا الذي لا ينتهي مع العدو الأميركي، وقاعدته العسكرية المتقدمة على أرض فلسطين، كسر الحصار باستجلاب الوقود الإيراني، وعبر سوريا المحاصرة هي الأخرى، منح الأمة العربية في 40 يومًا فقط إمكانية رفع الرأس والنظر لأبعد من متطلبات اليوم، فإذا ضفاف المستقبل فسيحة، مليئة بالآمال، ولم تكن تنتظر سوى الحركة العربية الواسعة.
والحقيقة التي لا يرغب الكثيرون في الحديث عنها، إن قيام الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية، لم يكن هزيمة بالمعنى الكامل، بل كان استكمالًا لهزيمة قديمة، يوم وضع الاستعمار الأوروبي قدمه في الأرض العربية، وحين قرر الرحيل، وضع بنود عصر ما بعد الرحيل، وظلت الأمة كلها تحافظ على معاهدة سايكس بيكو، وكأنها تنزيل مقدس من السماء، وجب علينا تقديسه لا مناقشته.
ثم توالت الحوادث لتؤكد ما هو قائم بالفعل، وتحولت الدول العربية إلى شظايا في عصر كان الجميع يلجأ فيه للتكتل والاتحاد والتكامل، بينما كانت المواجهات العربية - العربية هي شعار النصف الثاني من القرن الماضي كله، لتكمل الأيادي العربية بحماسة بالغة شروط قيام الكيان العدو في 1948.
وفي القرن الجديد، لم تختلف الأمور عن سابقها، كانت الشروط الأميركية، التي انبث عنها عصر ما بعد حصار العراق، وصولًا إلى تدميره، تتعامل مع كل دولة كوحدة قائمة بذاتها، وبالحدود الموروثة من سايكس بيكو الاستعمارية، كانت كل دولة عربية أزمة مستقلة بذاتها، إما صاحبة موارد هائلة تعيش على الهامش، وتخشى الجميع وتحتاج دائمًا للحماية، كما في حالة الخليج، أو دول يزداد عدد سكانها عن مواردها وتعيش أزمة ديون مزمنة واحتياجات للتنمية لا تنتهي.
وكان الأخطر في العصر الأميركي القديم، أن كل دولة عربية، بمفردها، لا تملك مفاتيح الصراع الكبرى وحدها، وبالتالي فهي عامل ضمن عوامل مؤثرة في أحسن الفروض، لا تملك أساسًا التأثير خارج شبر واحد من حدودها، وهي مجرد جبهة في التخطيط الأميركي والتفكير الأميركي، تبرد أو تسخن حسب الوقائع، ثم يعود الجميع إلى خموله الميت المميت.
كانت الانتصارات في عصرنا القديم فردية، إن جاز التعبير، تتعلق بكل دولة على حدة، انتصر لبنان في 2000 و2006، وربما انتصرت مصر وسوريا في 1973، لكن حتى الانتصارات كانت الأنظمة العميلة والقائمة تفرغها فورًا من مضمونها، لتخسر الأمة كلها أضعافًا مضاعفة لما حققته البندقية العربية والدم العربي، كما فعل السادات في كامب ديفيد، أو كما سقطت الجامعة العربية بمبادرتها للاستسلام الشامل في مطلع القرن الجديد.
الحجر اللبناني، الذي ألقاه سماحة السيد حسن نصر الله، في البيئة العربية الساكنة، قد حوّل خيار لبنان في التحدي إلى انتصار كامل لسوريا ولبنان وفلسطين، مفاده: لم تعد العقوبات الأميركية سيفًا على رقاب الجميع هنا، لكن الأهم كان تقديم المثل والنموذج لكل شعب عربي، وكل يد عربية، بحدود القدرة وحق الحلم بالمستقبل.
فيما بعد القرار اللبناني، وجبن العدو الصهيوني أمام القوافل الإيرانية القادمة إلى سوريا وصولًا إلى لبنان، شهدنا الحراك الفلسطيني، الذي بات يدرك هشاشة عدوه وضآلته، وأن العدو لا يستطيع أن يفرض –رغم كل قوته- على شارع فلسطيني واحد، ما يريد أن يفرضه.
أثبت أبطال سجن جلبوع الستة، ثم الاشتباكات مطلع الأسبوع الحالي في عدة مناطق بفلسطين المحتلة، كم هو ضعيف هذا الكيان أمام أي فعل عربي، صغيرًا كان أم كبيرًا، وكم هو الارتباط العربي الفطري بالقضية المركزية ممثلة في فلسطين وأرضها، وكم هو التراكم النضالي قادر على كسر كل يد صهيونية وكل مصدر للقوة.
ما يحتاجه هذا الكيان للاقتناع بإفلاس المشروع هو الخسارة الدائمة، اليومية والمستمرة. لا يتحمل الصهيوني النزيف البشري، ثم هو لا يملك من الأصل إمكانيات البقاء، التي تظل مستوردة بالكامل من الغرب، ومرهونة بقيام الكيان بدوره الافتراضي في قطع التواصل العربي وتمزيقه ومنعه.
العدو الذي قام على أشلائنا، وبدعم غربي غير خاف ولا محدود، يمثل حاملة الطائرات في محيط عربي، كل من فيه مقاتلون وإن تنوعت وظائفهم، وهو في حال حرب دائمة وأبدية، ضد محيطه وضدنا وضد الهواء الذي تتنفسه أرضنا حتى، وهو يمضي ضد التيار والواقع والحقائق، والأهم أنه يحتاج لقاعدته الأولى على الدوام، سواء للحصول على العناصر البشرية الجديدة أو للتموين بكل ما يحتاجه لرحلته القصيرة.
منذ قيام الكيان لم تتوقف المساعدات الغربية عن دعمه، وترميم الثغرات وسد منافذ التسرب والضعف. من مصادر ثلاثة لا رابع لها يحصل الكيان على التغذية اللازمة لبقائه، الولايات المتحدة أولًا وألمانيا ثانيًا والدعم المالي اليهودي القادم من كل دول العالم، وبالتالي فإن أنبوب بقاء الكيان يقع في الخارج، وبقطعه لأي سبب، يفقد الكيان كل أدوات الوجود وشروطه، حتى لو كان هذا السبب هو قناعة تنمو بعدم القدرة على البقاء.
ما يبدو من العمليات الفلسطينية، المحدودة منها والكبيرة، أن المقاتل الفلسطيني فهم درس الانتصار العربي في كسر الحصار، وبدأ للتو رحلته الوجودية مع الكيان.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024