آراء وتحليلات
اميركا وصناعة "المجاهدين"(4): حفلة صيد الصقور الخليجية ونجاة بن لادن
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
بحلول أواخر التسعينيات من القرن العشرين، وبعد تفجيرات السفارتين الأميركيتين في شرق إفريقيا - كينيا وتنزانيا في العام 1998، استفاقت وكالة المخابرات المركزية ومعها البيت الأبيض على التهديد الإسلامي التكفيري، لكنهما عرفاه بشكل حصري تقريبًا من قيادة أسامة بن لادن لـ"القاعدة"، وفشلا في رؤية السياق الأكبر.
صنّفت الولايات المتحدة بن لادن كأحد أهم الرعاة الماليين للأنشطة الإسلامية المتطرفة في العالم. عام 1999، جمعت مختبرات سانديا الوطنية الأميركية (تعد مركزًا للبحث والتطوير ممولًا فيدراليًا) ملفًا شخصيًا من 400 صفحة عن بن لادن - أكثر شمولاً بكثير من مخطط وكالة المخابرات المركزية المقتضب لعام 1996، ولا شك أنه يعكس صعوده فائق الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة. وجد تقرير سانديا أن "هجمات السفارة الأفريقية لم تفاجئ الولايات المتحدة، بالنظر إلى قدراتها الاستخباراتية الحالية لمكافحة الإرهاب. وخلص محللو سانديا - بشكل مخيف - إلى أن تفجيرات افريقيا، أظهرت أن "الحرب" على الإرهاب لن "تنتصر" أبدًا.
بدوره، يكشف ملف بن لادن الذي نشره أرشيف الأمن القومي الاميركي في ايار 2011، أنه "بعد الانتصار عام 1989 على السوفييت في افغانستان، أنشأ بن لادن، أثناء إقامته في السعودية والسودان، شبكة من مراكز التجنيد ودور الضيافة التابعة لـ"القاعدة" في مصر والمملكة وباكستان، وذلك لجمع وإيواء آلاف المجندين العرب. كما اتهمت الوثيقة بن لادن "بتقديم الدعم المالي لتفجيرات عام 1992 ضد جنود أمريكيين في الصومال، وثلاثة معسكرات تدريب إرهابية على الأقل في السودان" وواحد في أفغانستان، فضلًا عن تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993.
وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، "أثناء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، ساعدت وكالة المخابرات المركزية بالفعل بن لادن - الذي قدَّم معدات البناء من شركة عائلته في المملكة العربية السعودية - لبناء مجمع تورا بورا كقاعدة لمحاربة السوفييت".
بعد ما يقرب من عقد من الزمان، استغل بن لادن استثماره السابق بشكل جيد. في منتصف عام 1996، انتقل بن لادن من السودان إلى أفغانستان حيث عاش وعمل تحت مظلة حركة "طالبان". أفادت برقية صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية عام 1997 أن "بن لادن عمد الى الاختباء في كهوف جنوب جلال أباد في تورا بورا، ومن هناك خطط لتفجيرات آب 1998 للسفارتين، مما أسفر عن مقتل المئات وإصابة الآلاف.
أصبح بن لادن المطلوب رقم واحد عالميًا. في وكالة المخابرات المركزية، كرّسوا كل جهودههم لمحاولة القبض على بن لادن أو قتله. ولم يستهدفوا إلا في وقت لاحق (غداة 11 ايلول) "حركة طالبان" أو المخابرات العسكرية الباكستانية أو الأموال التي تتدفق على "طالبان" و"القاعدة" من السعودية والإمارات.
في 23 شباط 1998، استدعى بن لادن مراسلي الصحف والتلفزيون إلى معسكر خوست الذي بنته وكالة المخابرات المركزية له في ذروة الجهاد ضد السوفييت. أعلن عن إنشاء منظمة جديدة - الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين - وأصدر بيانًا يقول فيه إن "قتل ومحاربة الأمريكيين وحلفائهم، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، واجب على كل مسلم قادر على القيام بذلك في أي بلد". في آب من السنة ذاتها، وضع هو ورفاقه هذا البيان موضع التنفيذ مع تفجيرات شاحنات مفخخة مدمرة للسفارتين في كينيا وتنزانيا.
في غضون أيام من تفجيرات شرق إفريقيا، وقّع الرئيس الأميركي بيل كلينتون على مذكرة إخطار سرية للغاية تسمح لوكالة المخابرات المركزية باستخدام القوة المميتة ضد بن لادن.
تقول وثيقة أخرى وهي من ضمن أرشيف الأمن القومي كتاب الإحاطة الإلكتروني رقم 381، ونشرت في 19 حزيران 2012 خلال التسعينيات: استثمرت إدارة كلينتون موارد مالية كبيرة لتطوير طائرة بدون طيار لمسافات طويلة تسمى "بريداتور"، اخترعها كبير المصممين السابق للقوات الجوية الإسرائيلية، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة، ويدعى أبراهام كريم. تم تثبيت كاميرا Sony Digital TV في جسم الطائرة، على غرار تلك التي تستخدمها طائرات الهليكوبتر الإخبارية التي تبث تقارير عن حركة المرور على الطرق السريعة. وبمطلع القرن الواحد والعشرين، أضاف خبراء الوكالة أيضًا صاروخًا من طراز "هيلفاير" المضاد للدبابات إلى بريداتور واختبروه على نموذج شبيه بالحجم الطبيعي لمزرعة تارناك في افغانستان (وهي مجموعة من المباني تسمى مزرعة تارناك) في صحراء نيفادا. نظام الأسلحة الجديد هذا، جعل من الممكن قتل بن لادن على الفور إذا رصدته الكاميرا. مع دخول طائرة "بريداتور" الخدمة، كثّفت الوكالة جهودها لشطب بن لادن كمصدر تهديد لها. أثناء تحليقها فوق مزرعة تارناك خارج قندهار، صوّرت الطائرة رجلًا يبدو أنه بن لادن. حددت الوكالة بالفعل مجمع عائلة بن لادن في مزرعة تارناك بالقرب من مطار قندهار. من المحتمل أنه تم التقاط المزيد من صور القمر الصناعي لهذا الموقع أكثر من أي مكان آخر على وجه الأرض، إحدى أكثر الصور شهرة كانت تظهر بن لادن وهو يقف خارج منزل زوجاته.
أشار عميل للوكالة من قندهار، إلى أن بن لادن جاء لزيارة إحدى زوجاته. وأظهرت الكاميرا رجلًا طويل القامة يرتدي ثيابًا عربية محاطًا بحراس شخصيين مسلحين وهو يسير من مبنى رسمته وكالة المخابرات المركزية سابقًا على أنه مقر إقامة بن لادن، إلى مسجد صغير من الطوب اللبن على الجانب الآخر من الطريق. لم تكن هناك طريقة للتأكد بنسبة 100 بالمائة من أن الرجل كان ابن لادن، لكن الأدلة كانت قوية للغاية.
وضعت الوكالة خطة متقنة لاختطاف بن لادن من مزرعة تارناك بمساعدة عملاء أفغان وإبعاده عن البلاد، بالتزامن مع ذلك، نشر البيت الأبيض غواصات في شمال بحر العرب، مع خريطة إحداثيات مزرعة تارناك محملة مسبقًا في أنظمة توجيه الصواريخ الخاصة بها. كانوا ينتظرون أدلة دامغة من وكالة المخابرات المركزية على أن بن لادن كان في ذلك المكان، لكن مدير وكالة المخابرات المركزية جورج تينيت ألغى المشروع بسبب ارتفاع مخاطر وقوع إصابات.
في 20 اب 1998، أمر كلينتون بإطلاق 75 صاروخ كروز، بتكلفة 750 ألف دولار لكل منها، على معسكر زوهر كيلي (حوالي سبعة أميال جنوب خوست)، بعد تسرب معلومات عن اجتماع رئيسي مفترض كانت تعقده "القاعدة". أسفر الهجوم عن مقتل 21 باكستانياً لكن بن لادن كان تلقّى تحذيرًا مسبقًا، ربما من قبل المخابرات السعودية وفقًا لما يقول تشالمرز جونسون (أستاذ متقاعد في الدراسات الآسيوية بجامعة كاليفورنيا، سان دييغو. عمل من عام 1968 حتى عام 1972، كمستشار لمكتب التقديرات الوطنية لوكالة المخابرات المركزية).
في الوقت نفسه، أطلقت الولايات المتحدة 13 صاروخ كروز على مصنع كيميائي في الخرطوم، زعمت وكالة الاستخبارات المركزية أن المصنع مملوك جزئيًا لبن لادن وأنه كان يصنع غاز الأعصاب. كانوا يعرفون أن لا شيء من هذا صحيح.
جاءت الضربات في توقيت مريب، إذ ان كلينتون كان قد اعترف علنًا بعلاقته مع مونيكا لوينسكي في 17 آب أي قبل ثلاثة أيام من الهجوم الصاروخي، وهو ما اعتبره العديد من الخبراء والسياسيين في أميركا ومناطق مختلفة من أنحاء العالم، أن الهجومين كانا اجراءين تضليليين.
على اثر الهجوم الصاروخي الفاشل على السودان، أصبح كلينتون أكثر حذرًا، وبدأ هو ومساعدوه يشككون بجدية في جودة معلومات وكالة الاستخبارات المركزية، التي ضعفت مصداقيتها أكثر فأكثر بعد القصف الصاروخي للولايات المتحدة والذي طال السفارة الصينية في بلغراد في أيار 1999، بسبب معلومات استخبارية خاطئة. بعد ذلك بعام، طرد تينيت ضابط مخابرات ووبخ ستة مديرين، بمن فيهم مسؤول كبير، بسبب فشلهم في تلك الحادثة.
بعد يومين من الهجوم على معسكر بن لادن، أجرى الملا عمر زعيم حركة "طالبان" حينها، مكالمة هاتفية مع واشنطن - الاتصال المباشر الوحيد المعروف للحكومة الأمريكية مع زعيم طالبان - ادعى فيه أنه لا يعتقد أن "بن لادن شارك في أي نشاط إرهابي أو خطط له. أثناء تواجده على الأراضي الأفغانية"، وأن "التخلص منه لن ينهي المشاكل التي يسببها العالم الإسلامي على الولايات المتحدة" حسب تعبيره.
في هذه الأثناء واصلت إدارة كلينتون مطاردة بن لادن، وقامت بمحاولتين أخريين للعثور عليه. شتاء 1998 ــ 1999، يكشف جونسون أن وكالة المخابرات المركزية أكدت أن "مجموعة كبيرة من كبار الشخصيات الخليجية قد طاروا إلى الصحراء الأفغانية لحضور حفلة لصيد الصقور، وأن بن لادن انضم إليهم".
واضاف "دعت وكالة المخابرات المركزية إلى شن هجوم على معسكرهم، لكن ريتشارد كلارك مساعد كلينتون في مكافحة الإرهاب، اكتشف أن من بين مضيفي التجمع كان أفراد في العائلة المالكة من الإمارات العربية المتحدة. كان لكلارك دور فعال في صفقة عام 1998 لبيع 80 طائرة عسكرية من طراز F-16 إلى الإمارات العربية المتحدة، والتي كانت أيضًا موردًا مهمًا للنفط والغاز لأمريكا وحلفائها، فتم إلغاء الضربة".
استمرت محاولات وكالة المخابرات المركزية، لقتل بن لان. في إحدى رحلاتها الجوية من أوزبكستان فوق مزرعة تارناك الافغانية، سجلت "بريداتور" صورًا لرجل خلص محللو وكالة المخابرات المركزية لاحقًا إلى أنه من المحتمل أن يكون بن لادن. كانت هناك ايضًا حبال غسيل، كما أظهرت تقارير العملاء وصور الأقمار الصناعية بوضوح أرجوحة خشبية لطفل بالقرب من بعض المباني السكنية. لم تكن هناك صور لأي طفل يتأرجح بالفعل، لكن يُفترض رسميًا أن الأطفال في مكان قريب.
قدّرت وكالة المخابرات المركزية أن المجمع كان يضم حوالي مائة امرأة وطفل من عائلة بن لادن وأفراد أسر بعض كبار مساعديه. يقول جونسون "اقترح تينيت، الذي كان خائفًا من إلقاء اللوم عليه مجددا بسبب فشل آخر، نقل المسؤولية من استخدام البريداتور إلى سلاح الجو الاميركي".
عندما وصلت الإدارة الجمهورية الجديدة إلى السلطة في العام 2000، كانت غير مهتمة ببن لادن والإرهاب على الرغم من أن مستشار الأمن القومي المنتهية ولايته ساندي بيرغر، حذر خليفته آنذاك كوندوليزا رايس من أن "هذه ستكون أخطر مشكلة في السياسة الخارجية للرئيس جورج دبليو بوش".
في 25 كانون الثاني يناير 2001، أرسل مستشار مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي ريتشارد أ. كلارك، مذكرة مشهورة الآن إلى المستشارة رايس، حذّرها فيها من أن "القاعدة ليست قضية إرهابية ضيقة وصغيرة يجب تضمينها في سياسة إقليمية أوسع". وأشارت المذكرة إلى الهجوم الانتحاري لـ"القاعدة" على المدمرة الأميركية كول في ميناء عدن اليمني في 12 تشرين الاول العام 2000، والذي أسفر عن مقتل 17 بحارًا وإصابة 39 آخرين. أوصى كلارك بأن "ترد الولايات المتحدة في الوقت والمكان وبالطريقة التي نختارها"، متذرعًا "نحن بحاجة ماسة إلى ... مراجعة على مستوى المديرين على شبكة القاعدة ".
بين عام 1996 وصيف عام 2001، ضغطت الولايات المتحدة على "طالبان" أكثر من 30 مرة لطرد بن لادن من أفغانستان، وفقًا لتقرير وزارة الخارجية في تموز 2001.
في الشهر التالي، تضمن الموجز اليومي للرئيس إحدى أشهر الوثائق التي ستصدر عن زعيم "القاعدة - مذكرة 6 اب 2001 بعنوان "بن لادن مصمم على الإضرار بالولايات المتحدة". تم وضع علامة على الوثيقة "للرئيس فقط" - ربما علامة على ضياع فرصة لتبادل المعلومات الاستخباراتية - وذكرت أن معلومات مكتب التحقيقات الفيدرالي "تشير إلى أنماط من النشاط المشبوه في هذا البلد بما يتفق مع الاستعدادات لعمليات الاختطاف أو أنواع أخرى من الهجمات، بما في ذلك المراقبة الأخيرة للمباني الفيدرالية في نيويورك".
في شهادتها أمام لجنة الحادي عشر من سبتمبر، أصرّت رايس على أن هذه الوثائق كانت لا ترقى إلى مستوى تحذير حقيقي".
يقول جونسون بـ"النظر إلى الدور الواضح للوكالة في التسبب في كارثة 11 سبتمبر 2001، فإن ما نحتاجه اليوم ليس قيصر استخبارات جديد، بل إنهاء السرية التي تختبئ وراءها وكالة المخابرات المركزية وتتجنب المساءلة عن أفعالها. تواصل وكالة المخابرات المركزية بشكل صارخ تشويه أي وكل محاولات لسياسة خارجية دستورية" واضاف "إنني أعتقد أن وكالة المخابرات المركزية قد تجاوزت أي تبرير للحرب الباردة كانت تمتلكه في السابق وينبغي ببساطة إلغاؤه".
في المحصلة تسببت العمليات الوحشية وغير الكفوءة والسرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ـــ التي كثيرًا ما تلاعبت بها وكالات الاستخبارات العسكرية في اسلام اباد والرياض ــ في الدمار الكارثي لهذا البلد الفقير أي أفغانستان.
واستنادًا إلى الأدلة الواردة في كتاب ستيف كول المهم عن افغانستان (كان مدير مكتب جنوب آسيا في صحيفة واشنطن بوست بين عامي 1989 ــ 1992 تحت عنوان "حروب الأشباح: التاريخ السري لوكالة المخابرات المركزية وأفغانستان وبن لادن، من الغزو السوفياتي حتى 10 ايلول 2001، يرى كول انه "لن يعرف الأميركيون ولا ضحاياهم في العديد من بلدان العالم الإسلامي وبلدان العالم الثالث، السلام، إلى أن يتم إلغاء وكالة الاستخبارات المركزية".
لكن لجونسون رأي آخر، فهو يعتبر أنه في "افغانستان بالتحديد، الملطخة أياديهم بدماء الأبرياء الأفغان كانوا كثرًا أيضا وليس الوكالة وعناصرها فحسب، وفي مقدمتهم الرئيس جمي كارتر، ومستشاره للأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي وحلفاؤهم رونالد ريغان وإدارات بوش الاب والابن، بما في ذلك وزراء الحرب ربورت غيتس ودونالد رامسفيلد، ونائب بوش الابن ديك تشيني، ووزير الخارجية كولين باول وكوندوليزا رايس، ونائب وزير الحرب الاسبق بول وولفويتز، ونائب وزير الخارجية ريتشارد أرميتاج، وهؤلاء معظمهم من المحافظين، ويتحملون جميعًا بعض المسؤولية عن اكثر من 1.8 مليون ضحية أفغانية، 2.6 مليون لاجئ و 10 ملايين لغم أرضي غير منفجر نتجت عن قراراتهم. وهم أيضًا يتقاسمون اللوم عن الضربة التي أصابت واشنطن في 11 أيلول 2001. بعد كل شيء، ظهرت "القاعدة" كأشهر منظمة ارهابية عالمية، حيث ساعد هؤلاء جميعًا على إنشائها وتسليحها".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024