معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

01/09/2021

"طالبان" بين الانهيار والصعود(2): أموال أميركا تُحيي الحركة

د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي

غداة غزو افغانستان في العام 2001، واستسلام حركة "طالبان"، عاد عناصرها إلى ديارهم. كانوا يدركون أن سعيهم للعفو ربما لن ينجح، لكنهم لم يعاودوا الظهور لفترة من الوقت. بعضهم أراد الاندماج في الحياة، غير أنهم لم ينجوا من ملاحقة الولايات المتحدة وأدواتها في الحكومة والجيش الأفغاني، الذي استنسخ تجربة "طالبان" في استسهال القتل وارتكاب الجرائم وتركيب التهم والتسلط على المدنيين واضطهادهم، من خلال الاستقواء بالاحتلال الأميركي، وهو ما ساهم بشكل أساسي في اعادة انبعاث "طالبان"، وتجميع قواها، وبالتالي أصبحت الحركة المنقذ والملاذ الآمن للقرويين، لحمايتهم من بطش الاحتلال الأميركي والحلفاء.

آنذاك، كان لدى القوات الأميركية تفويض مفتوح لخوض الحرب على الإرهاب، لكنها واجهت مشكلة، ألا وهي أن "طالبان" لم تعد موجودة كحركة و"القاعدة" فرّت من البلاد بعد تثبيت الاحتلال الاميركي. في ذلك الوقت، كان لدى اميركا الآلاف من القوات الخاصة على الأرض بحثا عن الإرهابيين، لكن في الواقع لم يكن هناك إرهابيون للقبض عليهم، لذا بدأوا بتحفيز الأفغان المحليين على إنتاج الإرهابيين.

تحول الاستقواء بالأميركي الى ظاهرة منتشرة، فعلى سبيل المثال، إذا كان أحد الأفغان يملك قطعة أرض في قرية أو بلدة أفغانية ما، وهناك شخص آخر يرغب بتلك الأرض، وربما كان بين الاثنين تاريخ من العداوة التي أنتجتها الحرب الأهلية، بحيث أن صاحب الأرض كان آذى عائلة الشخص الآخر في الماضي، وللحصول على مراده يلجأ الأخير عبر ولده الذي يتقن اللغة الإنكليزية، إلى الأمريكيين ويقول لهم إن صاحب الارض عضو في تنظيم "القاعدة" أو "طالبان"، وعلى الفور تداهم الولايات المتحدة المكان، وتعتقله، وأحيانا تقتله، أو ترسله  إلى غوانتانامو. أسلوب السطو هذا، لم يكن يشمل "طالبان" فقط، بل كافة الأبرياء.

بين عامي 2001 و2004، لن يكون مبالغًا القول وفقًا لصحيفة The Inercept الأميركية إنها كانت حقا حربا أحادية الجانب شنتها الولايات المتحدة ووكلاؤها ضد القرويين الأفغان. ولذلك شعر الناس بالحاجة إلى الحماية. فمستوى انعدام الأمن كان غير عادي. وهكذا بدأوا في العودة إلى أحضان "طالبان" وتم إحياء الحركة نوعًا ما. ولهذا السبب فرّ الكثير من القادة القدامى في "طالبان" إلى باكستان، وعملوا على مد خطوط التواصل مع رفاقهم السابقين، وقاموا بجمع الأموال، ثم عادوا إلى أفغانستان، لحماية قريتهم من جشع قوات الأمن الأفغانية والأمريكيين.

أكثر من ذلك، ففي بلدة في جنوب أفغانستان، كان هناك فصيلان متنافسان، الأول يضم رئيس البلدية، والثاني  يشمل رئيس الشرطة، كلٌّ منهما يدّعي أنه يمثل حكومة الرئيس حامد كرزاي في هذه المدينة. تواصل كل واحد منهما بشكل مستقل مع الولايات المتحدة لاتهام الآخر بأنه من "طالبان". وبشكل غير عادي، انتهى الأمر بالولايات المتحدة بمداهمة وقتل أشخاص من كِلا الجانبين وإرسال آخرين إلى مطار قندهار، وتعذيبهم بشكل وحشي. وفي النهاية جرى القضاء عليهم بشكل أو بآخر بين عشية وضحاها في هذه المنطقة.

ومن القصص أيضًا التي ترويها الصحيفة، هي قصة علي، المقاتل السابق في "طالبان". تقاعد علي في أعقاب الاجتياح، ثم عمد في العام 2006، الى فتح متجر لبيع وتصليح الهواتف المحمولة، غير أنه سرعان ما أدرك أنه ومن أجل حمايته، يحتاج إلى دفع نقود لعصابات مختلفة، ترتدي زي الشرطة وتعمل في منطقته. ومع ذلك لم يسلم منهم، إذ قاموا بضربه والإساءة إليه وتحطيم أملاكه، ولم يكن لديه فرص عمل على الإطلاق. كما أنه كان لديه أصدقاء قُتلوا أو عذبوا على أيدي القوات الموالية للحكومة.

وهكذا في مرحلة ما، أصبح ما حصل مع علي وكثير من الناس أمثاله، مجرد نوع من الاستنتاج المنطقي الذي يقوم على الآتي: إذا كنتم لن تسمحوا لنا أن نعيش بسلام في النظام السياسي الجديد، نحن سنرفضكم، ونحمل البندقية من جديد لمواجهتكم، وهذا ما فعله علي وغيره واقعًا.

"طالبان" بين الانهيار والصعود(2): أموال أميركا تُحيي الحركة

 
حدثت هذه الأمور في جميع أنحاء الريف الأفغاني. بمجرد أن ترسخت "طالبان" في القرى وفي الريف، أصبح من الصعب جدًا اقتلاعهم من جذورهم. يقول الصحافي أناند غوبال، وهو مؤلف كتاب عن افغانستان تحت عنوان "لا رجال صالحون بين الأحياء" وقام بنشره في العام 2014 "عندما زرت أفغانستان في عام 2008، وكنت أقيم في القرى، ما أدهشني هو أن كل شخص قابلته، حتى لو لم يكونوا هم أنفسهم من طالبان، كان لديهم أقارب في الحركة. كان لكل فرد في القرية بعض أفراد الأسرة الذين انضموا إليها. لقد اندمجوا تمامًا في الحياة الريفية. ولهذا السبب لم تكن الولايات المتحدة قادرة على هزيمتهم. وبناء على ذلك يمكن القول إن الولايات المتحدة خسرت الحرب بشكل أو بآخر بحلول عام 2005 أو 2006".

أدت التصرفات الأميركة ومعهم الناتو والعملاء المحليون، الى إنتاج وضع زاد من قوة "طالبان". ومع تصاعد العمليات ضد الاحتلال، اعتمدت الولايات المتحدة أكثر على الوكلاء لمحاولة الحد من العنف ضد جنودها، وتأمين الطرق. أما الطريقة التي كانوا يفعلون بها ذلك في كثير من الأحيان، فهي ببساطة دفع المال لـ"طالبان" حتى لا يهاجموهم في أوقات معينة. وهذا يدل على أن وتيرة مواجهة "طالبان" للاحتلال كانت تخمُد وترتفع بحسب الفائدة المالية، وليس من منطلق عقائدي كما يظن البعض. وهنا نجد أنفسنا أمام نظرية قتالية جديدة أرستها "طالبان" وتقوم على: "ادفع تسلم".

 كانت هناك بعض الآليات. إحداها وهنا المفاجأة أن أميركا والناتو كانوا يدفعون لـ"طالبان" في بعض الأحيان بشكل مباشر. وبهذه الطريقة التي آتت ثمارها، غالبًا ما كان يتم الأمر من خلال منح عقود لشركات دفاع تتعاقد من الباطن مع بعض الشركات الأفغانية المحلية التي تدفع  بدورها لطالبان، بشكل أساسي، حتى لا تهاجم الاخيرة قوافل الاحتلال.

الطريقة الأخرى تمثلت بأن الولايات المتحدة كانت تتعاقد في بعض الأحيان مباشرة مع جهة فاعلة محلية لحماية قوافلها. فمثلا كان هناك طريق بين مدينتين في جنوب أفغانستان يبلغ طولها حوالي 100 ميل (اي 160.934 كيلومتر)، يتواجد على كلا الجانبين قواعد أميركية. ويوميا تمر من هناك مئات الشاحنات، من طرف إلى آخر.

عثرت القوات الأميركية على سائق سيارة أجرة افغاني، ودفعت له الكثير من الاموال لحماية الشاحنات، فما كان من هذا السائق إلا أن استأجر مسلحين، وأنشأ جيشًا خاصًا يحمي هذه الشاحنات. وطمعًا بالمزيد من الأموال، بات يداهم القرى على جانب الطريق، ويقتل ويعتقل الناس، فيلجأ هؤلاء الناس ولحماية أنفسهم، إلى "طالبان" ويطلبون دعمها، فتقوم الحركة بمهاجمة نفس الطريق الذي يحميه السائق. بعدها كان يذهب الاخير  إلى الأميركيين ويقول لهم: "انظروا، انظروا "طالبان" تهاجم هذا الطريق، وتحتاجون إلى دفع المزيد من المال لي، للحصول على عدد أكبر من الرجال".

كان الأمر عبارة عن حلقة مفرغة، لذا فإن الكثير من هذه الأموال ذهب إما مباشرة إلى "طالبان" أو إلى أمراء الحرب الذين استفادوا من انعدام الأمن. يقول الصحافي أناند غوبال، وهو واكب الحرب الافغانية ميدانيا بعد الغزو "في الحقيقة ما لا يقل عن 100000 رجل مسلحين وهم ما أسميه وكلاء أمريكا، هم الذين يخوضون هذه الحرب حقًا. وهذا هو الحال منذ عام 2014".

ويتابع "في كل يوم في أماكن مثل هلمند وقندهار، كنت في مقاطعة هلمند منذ حوالي شهر (اي في تموز 2021)، وكان مستوى العنف غير عادي. نحن نتحدث عن أناس يموتون بشكل فردي وثنائي، تارة بسبب اطلاق النار عليهم من قبل قناص، وطورا يقتلون نتيجة دوسِهم على قنابل مزروعة على جانب الطريق، هذا فضلًا عن مذابح كبيرة، لم يتم الإبلاغ عن الكثير منها، والتي ارتكبت في الغالب من قبل قوات الأمن الأفغانية".
يضاف الى ذلك كله، الفساد، فعند ذكر هذه الكلمة، يتبادر الى ذهن القارئ فورًا الرشاوى أو الاضطرار إلى دفع تعويضات لمسؤول، لكن هذا في الواقع كان أقل مشاكل الأفغان.

فالفساد في أفغانستان يعني إذا لم تدفع أي شيء لشخص ما، فربما يقتحمون منزلك ويطلقون النار عليك أو يأخذون أحباءك على سبيل المثال، أو هم سوف يدعون الى ضربة جوية لمنزلك.

لقد وُصفت الحكومة الأفغانية في السنوات القليلة الماضية، بأنها شكل متطرف من أشكال الفساد، فالابتزاز كان سيد الموقف، لدرجة ان الناس كانوا يقتلون لعدم سدادهم الضرائب التي هي عبارة عن أموال حماية لأمراء الحرب وأشياء أخرى من هذا القبيل.
وبناء على ما تقدم، أضحى واضحًا أن هناك سببًا لانهيار قوات الأمن الأفغانية بهذه السرعة، وتمكن "طالبان" من السيطرة. ليس لأن "طالبان" هي قوة تحرير وطنية شعبية على الصعيد الوطني. بل بالأحرى لأن الطرف الآخر مكروه للغاية لما فعلوه لدرجة أن الناس استسلموا نوعًا ما لأهون الشرين.

في الجزء الثالث: هل أنصفت أميركا المرأة الأفغانية كما تزعم؟

الجزء الأول: "طالبان" بين الانهيار والصعود (1): الملّا عُمر يبحث طريقة تسليم بن لادن

الفسادطالبان

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة