آراء وتحليلات
انتصار تموز بميزان المحور وأثره في المعادلة الجيوسياسية
محمد أ. الحسيني
يقود الحديث عن النتائج الجيوسياسية لانتصار المقاومة الإسلامية في حرب تموز 2006 إلى الحديث عن موقع هذا الإنجاز في سياق المواجهة الشاملة بين ما بات يُعرف بـ "محور المقاومة" وبين "المحور الأميركي" في منطقة الشرق الأوسط، بحيث أصبحت بين محور أول يرفض الخضوع للمشروع الغربي الاستعماري، وتقوده الجمهورية الإسلامية في إيران ويضم سوريا والعراق وحزب الله في لبنان، وحركات حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة، و"أنصار الله" في اليمن، وبين محور مقابل يعمل على فرض احتلال شامل الاتجاهات والأهداف على المنطقة، وتقوده أميركا ويضم "إسرائيل" ومعظم أوروبا والدول العربية والخليجية. وقد شخّص الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله شكل المواجهة هذه بالقول: "هناك مشروعان يتصارعان، مشروع الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على المنطقة وعلى المقدّسات وعلى النفط والغاز والخيرات، أما المشروع الثاني فهو مشروع المقاومة والسيادة والاستقلال والحريّة".
محور المقاومة قطب جديد بين القوى الكبرى
لم يأتِ مصطلح "محور المقاومة" كتشخيص أدبي في الاستخدام الإعلامي والسياسي بقدر ما هو تجسيد فرض نفسه على مسار التطوّرات الدراماتيكية منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وحتى يومنا الحالي، وشكلّت حرب تموز محطة مفصلية في هذا المسار، ترجمت تراكم الانتصارات في لبنان منذ العام 1982، وشكّلت تأسيساً لما تلا من انتصارات على مسرح المواجهة بدءًا من فلسطين وسوريا مروراً بإيران والعراق وصولاً إلى اليمن. والقاسم المشترك في المعطيات والنتائج بين هذه المحطات هو انتصار "محور المقاومة" وهزيمة "المحور الأميركي" وأدواته الإسرائيلية والخليجية.
واستطاع "محور المقاومة" فرض نفسه بثبات الموقف والاتجاه أولاً، وبقوة المعطيات والنتائج ثانياً، وبقوة التأسيس للمرحلة المقبلة، ودفع المحور المقابل إلى إعادة النظر في أوراقه والتعامل بواقعية مختلفة عما سبق، فلم تعد نظرية صراع القطبين بين شرق الأرض وغربها هي الحاكمة، ولم تعد تكتّلات وأحلاف القوى الكبرى هي التي تتحكّم بعوالم الأرض، فقد نشأ تكتّل جديد لم يعتمد على التفوّق العسكري والأمني والتكنولوجي كمبدأ حاسم لاعتماده وسيلة للمواجهة، وتمكّن هذا التكتّل من قلب المعادلات، ليس فقط على مستوى إحباط أهداف المحور الأمريكي، بل أيضاً على مستوى تكريس مبدأ المقاومة التي تحوّلت من شعار إلى محور وجبهات وعنصر أساسي من عناصر الانتصار، وهذا ما حصل ويحصل في الدول والجهات التي تشكّل أركان هذا المحور.
نصر إلهي واستراتيجي
أدّى انتصار المقاومة في حرب تموز إلى فرض معايير جديدة على حلبة الصراع، وليس الحديث هنا مرتبطاً بشرح الخطط والتكتيكات العسكرية وأساليب القتال والبراعة في كسر التفوّق النوعي الإسرائيلي المدعوم أمريكياً وعربياً، ولا في استخلاص النتائج الميدانية التي فرضت على العدو الإسرائيلي الانكفاء نحو أسقف متدنية من الأهداف، فقد أدّى هذا الانتصار إلى إفشال مشروع كبير وشامل، لم يكن محصوراً في القضاء على حزب الله وسلاحه ضمن بقعة جغرافية لبنانية، فقد كان تحقيق هذا الهدف - فيما لو تحقّق - مقدّمة لكسر كل حلقات المواجهة في المنطقة، ومن هنا جاء وصف السيد نصر الله لهذا الانتصار بأنه "إلهي واستراتيجي"، نظراً لما أفرزه من زخم مادي ومعنوي تجسد في انتصارات أخرى متتالية.
ماذا حقق محور المقاومة؟
ولعلّ أهم النتائج الجيوسياسية لانتصار تموز وهزيمة المحور الأمريكي وتوابعه تتمثّل في التالي:
• الفشل في تدمير قدرات المقاومة العسكرية، وإسقاط القرار 1559 ورموزه الداخلية، وما كان يهدف إليه من تحويل لبنان إلى محمية أميركية وحديقة خلفية آمنة للكيان الصهيوني، بل تم تكريس دور المقاومة في حماية البلد باعتبارها صمّام أمان لقراره وسيادته، وباتت "المقاومة بالنسبة للبنان شرط وجود، وليست صفة إضافية يمكن الاستغناء عنها"، على حد تأكيد السيد نصر الله.
• الفشل في تصفية مقاومة فلسطين وقضيتها، وسقوط ما يسمّى "صفقة القرن"، حيث إن وقوف حزب الله مع المقاومة الفلسطينية ساهم في هزيمة "إسرائيل" في كل المواجهات الأخيرة ولا سيما في غزة، وأبرزها معركة "سيف القدس" التي أكّدت أهميّة التكامل الجهادي عبر جمع فصائل المقاومة وتوحيدها في مواجهة الاحتلال لتحقيق النصر.
• فشل الحرب الكونية التي قادتها واشنطن في إسقاط سوريا والرئيس بشار الأسد، على الرغم من تحشيد الإرهابيين من أربع جهات الأرض، وتجنيد دول الخليج والجوار كل إمكاناتها من أجل تحقيق هذا الهدف، إلا أن سوريا انتصرت وكرّست حضورها الفاعل والرئيسي في "محور المقاومة"، وكان للمقاومة دورها المؤثر في دعم هذا الانتصار وتحصينه فيما بعد.
• فشل المؤامرات التقسيمية في ضرب وحدة العراق وشرذمة قراره وإعادته إلى "بيت الطاعة" في واشنطن بعد انسحاب معظم الجنود الأميركيين منها تحت ضربات المقاومة والحشد الشعبي، أضف إلى ذلك الضربة النوعية التي سددّتها إيران في قصف قاعدة "عين الأسد" الأميركية رداً على اغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في 2 كانون الثاني 2020، ليبدأ من هذا التاريخ العد العكسي لإخراج الوجود الأميركي من المنطقة.
• فشل العدوان السعودي - الخليجي المدعوم أميركياً في القضاء على حركة "أنصار الله" في اليمن، على الرغم من المجازر المريعة التي ارتكبها تحالف العدوان ضد الشعب اليمني، وكانت النتيجة أن السعودية والدول السائرة في فلكها وكذلك "إسرائيل"، باتت في دائرة استهداف الصواريخ والمسيّرات الحوثية، فيكسب "محور المقاومة" ركناً جديداً فاعلاً في المواجهة.
إيران المنتصر الأكبر
وفي هذا السياق، رأى الباحث "دانيال تورنيلي" العامل في وحدة التحليل الاستخباري في الشبكة المتحدة المرتبطة بمجلة "إيكونوميست" والصادرة في فيينا، أن من جملة النتائج الحاسمة للنتائج الجيوسياسية لحرب تموز 2006 هي أن "إيران كانت المنتصر الأكبر، فقد أصبحت تتحكّم بمستقبل الأميركيين في العراق، فيما خرج حلفاؤها في لبنان وفلسطين ومصر أقوى من ذي قبل بعد الحرب.. والاستنتاج الأول هو فشل نظرية أن الهجوم على حزب الله هو تجربة للهجوم على إيران، فقد حقق الحزب ما لم يستطع أي جيش عربي تحقيقه، إذ فاز في الحرب الإعلامية وكسر هالة الردع الاسرائيلية".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024