آراء وتحليلات
احتفال الصرح الاخير: كيف يمكن استعادة دور مفقود بوقائع متحولة؟
ابرهيم صالح
كان يمكن ادراج "همروجة " احتفال بكركي الخميس الماضي في خانة فعل تظهير ولو متاخر كثيرا لصفحة صلات وعلاقات تاريخية ربطت صرح هذه المرجعية الدينية اللبنانية وبين دولة عربية بما لها وبما عليها وهي السعودية، وهو في الظاهر يبدو حقا تكفله طبيعة التركيبة السياسية والدينية والاجتماعية والخصوصية التاريخية لهذا الكيان ذي اللون الهجيني، واستطرادا حق علاقة مرجعياته بالدول والديبلوماسيين، لدرجة ان المشهد عينه يتبدى وكانه جزء متاصل من طبيعة السلوك والاداء للطوائف والمرجعيات.
والامر عينه ليس ابن ساعته بل ثمة من المؤرخين من يعيده الى أكثر من قرن من الزمن اي الى مطالع القرن التاسع عشر وهو قد تكرس ونال شرعية الاعتراف في اعقاب الحروب والفتن والمواجهات المتتالية بين المكونات اللبنانية التي شهدها الجبل في اعوام 1820 و1940 و1860 وما تلا ذلك من دخول الدول الطامحة بالاستحواذ على تركة الرجل المريض اي الدولة العثمانية، الى عمق النسيج الطائفي اللبناني، فشكّل بعض هذه الدول وفي مقدمها فرنسا عامل استقواء لطوائف ومكونات على الاخرى.
لكن "المهرجان" الاحتفالي الذي حدث في ذلك الصرح التاريخي صبيحة ذلك اليوم وما اطلق فيه من كلام ورؤى مدونة ومعدة سلفا من شانه ان يدفع اي مراقب الى الخروج باستنتاج، لا يحتاج الى بذل كبير جهد وإعمال عقل، فحواه ان هذا المحفل بكل حركة وسكون سجلت خلاله انما اعدّ سلفا ليكون رسالة مكشوفة من طرفي اللقاء في اكثر من اتجاه ولأكثر من قصد وهدف. بل يتبدى للعيان ان المرجعية الدينية التي شاءت عن سابق اصرار وتصميم فتح ابواب الاستضافة، تحاول عبر الاعلان عن صدور كتاب من طبيعة دعائية قد اعد بعناية مشهود لها للايحاء لمن يعنيهم الامر بأن هذه المرجعية قد عثرت اخيرا على "ام حنون" يمكن لها ان تتكىء على كتفها بأريحية، غير الام التقليدية التي ضمر دورها وقل شانها اي فرنسا مع ادراكها ان في جوهر الاحتفال رسالة تحدّ بينة لمكونات لبنانية اخرى ضاربة جذورها في عمق التاريخ والنسيج اللبناني ان لم يقل رسالة استفزاز واعية.
ومن البديهي ان ثمة -من طرفي العرض- من استغل المناسبة لكي يخرجها من اطارها الثقافي التاريخي، وليدفعها باتجاه ان تصير منصة ومنبر يطلق عبره كلام كثير حمال أوجه يبدو ذا وظيفة اساسية فحواها ان ثمة زواجا مستجدا يعقد للتو، يعني حاضر المشهد السياسي اللبناني ومستقبله، وهو يتكىء بطبيعة الحال على التباسات ووقائع يرقى اليها الشك والريب.
وعليه فإنه يبدو ان "العقول الدهرية" التي كوتها التجارب المتهافتة والخائبة منذ منتصف عقد السبعينيات والتي اعادت تجميع نفسها لتصير المكتب السياسي المحيط بالبطريرك الراعي، والمولج بالالتفاف حول بكركي لضمان عدم تراجع سيدها عن النهج الذي اقتنع السير على هديه لحظة قرر قبل اكثر من عام رفع شعار الحياد ثم اطلاق الدعوة الى التدويل، هذه العقول قد شاءت للمشهد اياه ان يتم تحت عنوانين الاول ورد على لسان البطريرك عندما قال ان السعودية لم تدفع بلبنان في اي يوم من الايام الى خضم حروب ومواجهات او لجة اضطرابات والثاني افصح عنه السفير السعودي عندما نبه من محاولات تبذل ومساع تنطلق تؤدي الى تعكير علاقة لبنان بمحيطه العربي.
ومن خلال ذلك يمكن الاستنتاج أن سيد بكركي انما اختير اليوم ليستكمل كلاما ومعادلات سبقه في اطلاقها قبل عقود نخبة ممن كانوا يقدمون انفسهم من "منظري الصيغة ومفكري الكيان" عندما سعوا الى تكريس مقولة ان ما شهده لبنان طوال سني الحرب الاهلية انما هو "حروب الاخرين على الارض اللبنانية".
ومعروف ان مؤدى هذا الكلام الذي نال لاحقا قدرا كبيرا من التشكيك ومساحة من الطعن، يعني امرا اساسيا وهو التحلل التام "من ضريبة التاريخ وموجبات الجغرافيا" اي انكار او تجاهل متعمد لدور الكيان الصهيوني الذي اغتصب ارضا عربية مجاورة في القرن الماضي ثم مضى في رحلة اعتداءات متكررة على لبنان خصوصا، ودول المحيط عموما بغية تكريس هذا الفعل الاغتصابي الموصوف وجعله امرا واقعا من جهة والحيلولة دون قيام اي جهد مقاوم فلسطيني او لبناني او عربي لحماية لبنان من جهة والحد من الاطماع الاسرائيلية التي لا تنكر بارض لبنان ومياهه وخيراته وآخرها الثروة النفطية.
ولا شك ان في طيات هذا النوع من الكلام تعريضًا بالذين اختاروا مواجهة الاطماع الاسرائيلية واسترداد الاراضي الجنوبية التي رزحت تحت نير الاحتلال منذ منتصف السبعينيات الى يوم التحرير المشهود في 25 ايار عام 2000 فضلا عن انه يسقط ضمناً حق لبنان ومقاومته وجيشه (وفق ما نصت عليه بيانات الحكومات المتعاقبة منذ اوائل عقد التسعينيات) بتحرير ارضه والدفاع عن سيادته وثرواته.
ولا يخفى على اي عاقل وموضوعي ان في مضامين هذا الكلام تبرئة لـ"اسرائيل" من اي فعل عدواني وتحميل التبعية للمقاومة ولسندها التاريخي الذي لا ينكر وهو الجمهورية الاسلامية الايرانية.
اما الكلام الاخر الذي يزعم ان هناك من يتعمد التلاعب والعبث بعلاقة لبنان مع محيطه وبهويته العربية وتعكير هذه العلاقة فذلك منطق ينطوي على حصرية اساسية وهي ان دولة عربية بعينها من حقها ان تحمل الميزان وتقيم المعيار الذي يحدد علاقة البلد مع المحيط العربي وهي من حقها وحدها ان تمنح صكوك البراءة وشهادت الغفران وتبرئة الذمة. علما انه بات من تحصيل الحاصل التذكير بما سبق وقاله علماء السياسة والتاريخ من ان المعيار الحق والشرعي الذي يحدد انتماء جماعة ما الى قومية معينة انما هو مدى الالتزام بالقضايا المتفق على محوريتها عند الذين تجمعهم رابطة القومية هذه. والبوصلة الدقيقة كانت دوما تشير الى اتجاه واحد وهو قضية فلسطين السليبة وشعبها المهجر من ارضه وما دون ذلك ترهات واباطيل وهو خطاب يفتقد لاية قيمة مضافة.
واذا كان الكلام الذي اطلق في ذاك اللقاء الذي اختار البعض ان يمنحه صفة التاريخية واحاطه بتلك الهالة من الاضواء قد انطوى على خطاب مكرور متهافت ينتمي في اغلبه الى عهود خلت، ويسعى لتمجيد علاقة وتاصيلها فإن اللافت ان ثمة محاولة تبذل بدايتها هذا اللقاء لاصطناع تاريخ معين وذلك من خلال:
ـ استغلال المأساة الداخلية في لبنان والعمل على تبرئة ذمة جهات بعينها والقاء تهمة المسؤولية على جهات أخرى.
ـ ان اللقاء بحد ذاته وكلام السفير ينطوي على رسالة من الرياض لمن يعنيهم الامر بانها قررت ان تبدل مداخل علاقاتها بلبنان ومكوناته فتلغي قوى وتيارات كانت الى الامس القريب بمثابة وكيلها الشرعي وتكرس في المقابل مداخل اخرى من الان فصاعدا.
ولكن الثابت انه اذا اتفق طرفان على السير قدما في امر ما واصطناع توجه معين وبالتالي ابتداع تاريخ ما واهمال ما قبله لا يعني بالضرورة ان الابواب والسبل امام هذا النوع من الخيارات مفتوحة على مصراعيها.
وبالعموم فالجلي ان ثمة محاولات قد تم البدء فيها لفرض امر واقع معين بصرف النظر عن مآلاته ونهاياته المرتقبة. ولم يعد خافيا ان هذا الصرح المستضيف للقاء ينطلق من مبدأ ان اللحظة مؤاتية لكي يسترد زمام القرار المسيحي علّ في ذلك مقدمة لاستعادة دور معلوم ينطلق من مبدأ ان مجد لبنان قد منح له ذات يوم وأن عليه ان يؤدي دور حارس الهيكل ربما مع علمه المسبق بأن الظروف قد تبدلت المعطيات فقد انعكست والتجارب اظهرت انه من المستحيل استعادة عهد سياسي مضى وفق صورته وسيرته الاولى.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024